الحديث عن دولة وحكومة ومؤسسات في سورية أقرب إلى المجاز منذ ما سمي «ثورة الثامن من آذار» (1963) وإرهاصاتها، التي أحلت «الثورة» و «الشرعية الثورية» محل الدولة والشرعية الدستورية. لذلك نتحدث عن نظام هو نظام «الاشتراكية القومية» والحزب القائد، وسلطة عسكرية/ أمنية، وعن اندماج السلطة والنظام في بنية شمولية، تسلطية، تتقاطع فيها الخصائص العامة للاستبداد القديم والتوتاليتارية الحديثة، الفاشية والنازية والستالينية، وقد قيل الكثير في تشريحها وتحليل إستراتيجياتها وآليات عملها. ما يلاحظ اليوم هو انحلال النظام وتشظي السلطة، بحكم عوامل عدة أهمها الفساد المعمم والقمع المعمم، وما أنتجه هذان الفساد والقمع من آثار اجتماعية اقتصادية وسياسية وثقافية وأخلاقية، وبحكم جدلية السلطة والمقاومة أو المعارضة، ناهيك عن تآكل المشروعية الأيديولوجية، التي لم يتبق منها سوى شعارات المقاومة والممانعة وما إليها. الفساد موجود دوماً، في جميع الدول، ويعبر دوماً عن تناقض المصالح الخاصة والمصلحة العامة، بحيث لا تتعرف الأولى ذاتها في الثانية، ولكنه محدود، في الدول الحديثة، بسلطة القانون ورقابة المؤسسات التشريعية والهيئات الرقابية والصحافة والإعلام ومنظمات المجتمع المدني والقضاء المستقل. أما في سورية، فأصل الفساد أو جرثومته هو تحول السلطة إلى مصدر للثروة واحتكار هاتين السلطة والثروة، ومصادر القوة وتوزيعها جميعاً امتيازاتٍ ومغانمَ، بحسب درجة الولاء للمستبد الأكبر، «الأب القائد» و»القائد الرمز» و «قائد الجيش والشعب»، وفق آلية الاستتباع والاستبعاد، التي هي قاعدة من قواعد النظام والآلية الأبرز من آليات عمل السلطة، وتقابلهما بالطبع تجاوزات ومغارم. إن درجة الفساد هنا وثيقة الصلة بدرجة الولاء، وحين يكون الولاء مطلقاً يكون فساد الموالين مطلقاً، وينتج عنه نوع من اندماج بين السلطة والفساد حتى ليصعب التفريق بينهما (نعني بالإطلاق هنا انفلات الفساد من كل قيد قانوني أو أخلاقي). ومن جانب آخر، ما من سلطة إلا وتولِّد مقاومة أو معارضة، لا وفق آليات اشتغالها فقط، بل وفق ميادين اشتغالها أيضاً، إذ السلطة، في نهاية التحليل، علاقات قوة بين قوى مختلفة ومتفاوتة، وهذان الاختلاف والتفاوت يحددان قوة المقاومة أو شدتها، بوجهيها: الإيجابي والسلبي، فإن اختلال النسبة بين قوة الفعل الإيجابية وقابلية الانفعال السلبية في المقاومة أو المعارضة، يقابله اختلال النسبة ذاتها بين هذين الحدين في السلطة، فحين تتناهى قابلية السلطة للتأثر بالمعارضة والاستجابة لنقدها وبعض مطالبها إلى العدم، وتتجاوز قوة الفعل حدودها فتتحول إلى سيطرة شاملة ومطلقة لأفراد ذوي امتيازات، في ظل تصحر سياسي وخواء ثقافي وانهيار أخلاقي، تنفجر السلطة السياسية وتتشظى مؤسساتها وينحل نظام الأخيرة البيروقراطي وتكف عن كونها مؤسسات وطنية عامة وتغدو مجرد هياكل وأطر وقنوات سرية لمصالح خاصة لا يحكمها نظام ولا يحدها قانون. القوة العارية الناتجة من احتكار السلطة والثروة، والمؤسسة على مبدأ الاستتباع والاستبعاد وعلى نظام الولاء والامتيازات، وتوزيع السلطة والثروة امتيازات ومغانم، ليست في الواقع سوى سلطة أفراد فاسدين أشبه ما يكونون بنبلاء العصور الوسطى، يتربع كل من هؤلاء النبلاء المحدثين على رأس هرم من الفاسدين الصغار والسماسرة، مثلما يتربع المستبد «الأكبر» على رأس هرم من المستبدين الصغار لا يقوم استبداده إلا بهم. إن منح الامتيازات للموالين هو منح كل منهم جزءاً من السلطة يكافئ امتيازاته، سواء وعى المانح ذلك أو لم يع. هنا يتعين الفرق بين الموظف الذي يقوم بواجبات منصبه، بدءاً من رئيس الجمهورية، وبين المنصب الذي يوضع في خدمة من يشغله. وهذا ما سماه بعضهم «شخصنة السلطة»، أي اندماج الشخص والمنصب أو الموقع الذي يشغله اندماجاً يصعب معه التفريق بينهما. وهو ما يفسر استمرار ذوي الامتيازات وتابعيهم في مناصبهم ومواقعهم سنين طويلة، حتى تزول عنهم النعمة أو يوافيهم الأجل. فساد السلطة هو سلطة الفساد، فحين تتحرر سلطة الفساد من أي قيد قانوني وأخلاقي وتخرج عن سيطرة المستبد الأكبر، لأي سبب من أسباب الضعف التي رصدها ابن خلدون، مع الفارق في أوضاع العالم وإيقاع التطور، تتشظى السلطة، وتكف عن كونها سلطة سياسية، ويدخل النظام الذي تنتمي إليه في طور الانحلال. تشظي السلطة هو العلامة الأكثر بروزاً من علامات انحلال النظام الشمولي وفقدان المؤسسات العامة طابعها المؤسسي ثم طابعها الوطني ووظائفها الاجتماعية، وفقدان المستبد قدرته على كبح جموح تابعيه والسيطرة عليهم. انحلال النظام السياسي جزاء تاريخي عادل لغلبة الفساد على جميع وظائف السلطة السياسية، وتحول النظام العام إلى نظام إدارة الفساد وحمايته، وجزاء تاريخي عادل لقمع أي مظهر من مظاهر النقد والاعتراض والاحتجاج والمقاومة أو المعارضة الإيجابية، حتى بات التناقض الاجتماعي الاقتصادي والسياسي تناقضاً شاملاً وعميقاً بين أصحاب حقوق مهضومة ومهدورة وأصحاب امتيازات لا حد لجشعهم. وهذا ما يفسر إيغالهم في القتل والاعتقال والتعذيب والتهجير. لكن علاقات القوة التي أشرنا إليها، بين السلطة والمعارضة، هي ما سيقرر خواتيم الأمور. المدهش هنا واللافت للنظر، هو تحول المعارضة السلبية تدريجاً إلى معارضة إيجابية، بحكم انحلال النظام وتشظي السلطة، وانبثاق الوطنية السورية من رماد الأيديولوجيات الكبرى، القومية والإسلامية والاشتراكية وغبارها. وهو ما يحتاج إلى دراسات متأنية تستعين بعلوم «الحركات الاجتماعية»، ويلقي على عاتق الشعب السوري مسؤولية إعادة بناء الدولة الوطنية دولة حق وقانون لجميع مواطنيها بالتساوي. كان الشعب السوري «لا شيء» في ظل تسلط هؤلاء النبلاء، وهو ذاهب إلى أن يصير «كل شيء» من دونهم. * كاتب سوري