أشار تقرير حول إسبانيا نُشر في صحيفة «هيرالد تريبيون»، إلى أن كثيراً من المشاريع الحيوية، خصوصاً البنية التحتية كالطرق والمطارات، لم تكن هناك حاجة حقيقية إلى إنشائها. وأطلق عدد من الاقتصاديين الإسبان على هذه المشاريع صفة «الفيلة البيض» غير الحيوية وغير المطلوبة. ولا بد من أن يكون لمثل تلك المشاريع دور مهم في زيادة الدين السيادي في أسبانيا، وهو دين أصبح يشكل خطراً على العافية المالية للحكومة. ولا بد لتقرير كهذا من أن يثير ملاحظات مشابهة وأساسية في شأن مشاريع التنمية في منطقة الخليج العربي، حيث هناك كثير من المشاريع الخاصة بالبنية التحتية والمرافق والخدمات التي اعتُمدت في عدد من بلدان المنطقة وخُصصت لها أموال طائلة قدّرت بعشرات بلايين الدولارات أو ربما مئات البلايين، سواء من خلال بنود الإنفاق الرأسمالي في الموازنات الحكومية أو من خلال خطط التنمية. فهل دُرست هذه المشاريع في شكل مستفيض للتيقن من ضرورتها وأهميتها، ثم حددت أموال للصرف عليها؟ وكما هي الحال في إسبانيا، فإن عدداً من المشاريع المعتمدة في بلدان الخليج ربما لم يُقوَّم في شكل جاد، وربما كان الهدف هو الإنجاز السريع من دون التأكد من الأخطار الاقتصادية. ولا شك في أن بلدان الخليج سارعت إلى اعتماد المشاريع بعدما تزايدت إيرادات النفط خلال السنوات الماضية، وحققت فوائض مالية مهمة. وإذا لم تكن هذه البلدان الخليجية في وارد الاستدانة لتمويل إنجاز تلك المشاريع، فمن الواجب التأكد من أن الأموال تُصرف في قنوات صحيحة تؤدي إلى تحقيق أهداف تنموية سليمة. من الأهمية بمكان التذكير بأن بلدان الخليج ظلّت خلال العقود الخمسة الماضية، وبعضها ستة عقود مثل الكويت، تنفق كثيراً من الأموال على مشاريع البنية التحتية والمرافق والخدمات الحيوية. ومنذ أن حبى الله هذه البلدان بإيرادات النفط، رصدت أموالاً طائلة لتلك المشاريع. ماذا يعني ذلك؟ المقصود هو أن البنية التحتية والمرافق والخدمات ربما اكتملت في شكل كبير، والمطلوب، الآن، هو إنجاز إصلاحات وتحديثات على الطرق والمطارات ووسائط الانتقال والمستشفيات والمنشآت التعليمية والموانئ لتواكب المتغيرات التقنية والتوسعات اللازمة الناتجة من الزيادة السكانية الاعتيادية. لكن بلدان الخليج، ومؤسساتها التي تتخذ القرار، لا تطرح الأسئلة الصعبة عند الشروع في تحديد مشاريع التنمية: هل هذه البلدان مصرة على الاستمرار في السير في طريق الاقتصاد الريعي والاعتماد على استيراد العمال الوافدين بما يزيد من الأعباء الاجتماعية والاقتصادية؟ وماذا عن التشغيل الأمثل للعمال المحليين وتخفيف العبء السكاني الناتج عن استيراد العمال؟ وإذا توافرت إجابات مفيدة لهذين السؤالين، يصبح تحديد أهمية المشاريع أكثر إقناعاً وجدوى، ومن ثم يمكن قياس المنافع الاقتصادية من المشاريع المطروحة للإنجاز. وتتراوح نسبة السكان الوافدين في دول الخليج بين أقل قليلاً من النصف، مثل السعودية والبحرين، إلى ما يزيد عن ثلثي السكان في بلدان مثل الكويت وقطر والإمارات. ويشغل هؤلاء مختلف الأعمال في بلدان المنطقة وتزيد نسبتهم في قوة العمل إلى أكثر من 80 في المئة في عدد من هذه البلدان. وتمثّل هذه الوضعية تشوهاً فادحاً في اقتصادات الخليج. ولا بد لأي تنمية مستدامة تفترض توظيف أموال مهمة في قنوات الاقتصاد المختلفة في بلد ما، من أن تستهدف التوظيف الصائب للموارد البشرية الوطنية. ويؤكد التضخم السكاني في بلدان الخليج أن العناصر البشرية الوطنية لا تزال دون مستوى التشغيل المناسب. وتؤكد دراسات أجرتها مؤسسات متخصصة محلية ودولية، مثل البنك الدولي، أن مستوى العطاء من العمال الوطنيين يظل متدنياً إلى درجة مخلة اقتصادياً. كما أن التكاليف الناشئة عن هذا التوظيف المخل مرتفعة إلى درجة قياسية. وغني عن البيان أن هذه الحقائق تعكس طبيعة الاقتصادات الريعية وتشوهاتها الصعبة التي تزيد من استنزاف الثروة النفطية وتعيق توظيف الموارد المالية في أصول مدرة للعائد قد تساهم في تنويع القاعدة الاقتصادية في المستقبل. ولم تؤد هذه السياسات غير المجدية إلى هدر أموال الحكومات أو الخزائن العامة فحسب، بل أدت أيضاً إلى هدر موارد القطاع الخاص الذي وظف أموالاً مهمة في مشاريع عقارية وخدمية واسعة من دون التأكد من جدواها على الأمد الطويل. وتواجه دول الخليج الآن تحديات مهمة لا يمكن معالجتها من خلال إنفاق الأموال فقط، بل تتطلب معالجات منهجية تعتمد على وضع إستراتيجيات تنموية جادة وشجاعة. ومن أهم التحديات التنموية التي تواجه بلدان الخليج، هو تحدي التنمية البشرية. وأدت فلسفة الاقتصاد الريعي إلى تسارع الزيادة السكانية في مختلف هذه البلدان وبات معدل عدد الأبناء لأي أسرة خليجية، مهما ارتفعت درجة التعليم للأبوين، لا يقل عن أربعة. ولذلك فإن أعداد الشباب وصغار السن في تزايد، وتصل نسبة الذين تقل أعمارهم عن 20 في أي بلد خليجي إلى 50 في المئة، بينما تصل نسبة من تقل أعمارهم عن 30 إلى 75 في المئة. وأدت هذه الحقيقة الديموغرافية إلى تسارع التدفق إلى سوق العمل في شكل كبير وبما لا يمكن للإدارات السياسية أن تواجهه على أسس منهجية ومفيدة. وتتطلب التنمية البشرية، أيضاً، معالجة الاختلالات البنيوية في أنظمة التعليم وتعزيز مناهج التعليم المهني حتى يمكن استيعاب أعداد كبيرة من المتدفقين إلى سوق العمل في منشآت القطاع الخاص وإنجاز عملية إحلال إستراتيجية للعمال الوافدين. ولا ريب في أن التركيز على بناء القدرات البشرية الوطنية سيؤدي إلى توظيف أفضل للموارد الاقتصادية كلها، البشرية والمالية والطبيعية، ويعزز من عمليات ترشيد الموارد المالية وتوجيهها إلى مسارات تنموية تساهم في تنويع القاعدة الاقتصادية. فهل يمكن لبلدان الخليج أن تطرح برامجها التنموية على مائدة حوار من أجل الوصول إلى قناعات مجتمعية تعزز القدرة على تبني استراتيجيات تنموية عقلانية؟ * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية - الكويت