يشهد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إرهاصات سياسية واجتماعية مهمة، ربما تقود إلى تحولات سياسية نوعية، قد تؤدي إلى إقامة أنظمة جديدة تعتمد على آليات الديموقراطية والمساءلة، خصوصاً أن المنطقة عانت ركوداً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً لزمن طويل، ما أدى إلى تفاقم الأزمات على مختلف الأصعدة وانسداد الآفاق أمام الإصلاحات الهيكلية المستحقة. يعاني الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منطقة معضلات أساسية لا بد لأي نظام سياسي جديد من أن يتعامل معها بجدية صارمة. فهناك تحد ديموغرافي مؤكد إذ تواجه بلدان المنطقة، وإن بدرجات متفاوتة، ارتفاع معدلات النمو السكاني التي تتفاوت ما بين اثنين وثلاثة في المئة سنوياً، ولا تزال معدلات الخصوبة بين النساء في هذه البلدان مرتفعة وتُقدر بأربعة أطفال لكل امرأة في سن الخصوبة والإنجاب، أي النساء اللواتي تتراوح أعمارهن بين 15 و50 سنة. وفي ظل معدلات كهذه، لا بد من أن يكون الهرم السكاني متميزاً لفئة الشباب، وهي لذلك أدت إلى ارتفاع نسبة الذين تقل أعمارهم عن 30 سنة إلى نحو 70 في المئة. وهكذا تتزايد الأعباء الاقتصادية على هذه البلدان، وترتفع أعداد الوافدين سنوياً إلى سوق العمل في وقت تعجز فيه إمكاناتها عن إيجاد وظائف، ما يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب. وازدادت أعداد المتعلمين في مختلف بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال السنوات ال 60 الماضية، أي بعد نيل مختلف بلدان المنطقة استقلالها، إلا أن نوعية التعليم تراجعت إلى درجة كبيرة. وظلت الجامعات والمعاهد العليا في هذه البلدان تستقبل أعداداً كبيرة من خريجي الثانوية العامة سنوياً، ما حمّلها أعباء أكاديمية كبيرة، دفعت نوعية مخرجات التعليم الى التدهور خلال السنوات والعقود الماضية. وزاد التساهل في قبول خريجي الثانويات العامة في ظل نظام تعليم عام غير كفؤ وتدني مستويات الهيئات التعليمية وقدراتها، تواضع مستوى التعليم في شكل عام، وأُهمِل التعليم المهني بعدما أصبح هم كل مواطن الحصول على شهادة جامعية، وتراجعت اهتمامات الحكومات بالتعليم النوعي والمهني. ومعلوم أن التعليم الجامعي في البلدان الصناعية المتقدمة مخصص للذين يملكون رصيداً أكاديمياً متميزاً، فيما يُفسح المجال أمام الآخرين للالتحاق بمراكز التدريب ومعاهد التعليم المهني. وربما تتفاوت الأوضاع في بلدان المنطقة لجهة الاهتمام بالتعليم، إلا أنها لا تزال بعيدة من المستويات والمعايير الدولية ذات الصلة بكفاءة التعليم ومخرجاته، ليس فقط عن البلدان الصناعية الرئيسة أي أعضاء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، بل حتى البلدان الناشئة مثل الهند والصين وتايلاند والفيليبين وماليزيا التي تتميز بأنظمة تعليمية متكاملة تمكنت من رفع كفاءة العاملين، بل باتت من أهم البلدان المصدرة للعمال الماهرين إلى البلدان الصناعية المتقدمة وغيرها. لا ريب في عدم إمكاننا أن نعول كثيراً على إمكانات اقتصادية واعدة فكل الدول العربية غير النفطية تواجه مشكلات على صعيد التنمية الاقتصادية وهي تحاول أن تواجه التزامات قروضها الخارجية بصعوبات بالغة بعدما تراجعت إيراداتها السيادية. وتعاني هذه البلدان عجزاً في الإمكانات التي تتوافق مع متطلبات الإنفاق العام فهناك تراجع في الموارد الضريبية بما يعني استمرار تحقيق العجز في الموازنات الحكومية. ويزيد من معضلات الأنظمة الجديدة، استمرار الأزمة الاقتصادية العالمية والتي أضعفت قدرات البلدان الصناعية الأولى في مجموعة الثمانية. ومعلوم أن بلداناً في منطقة اليورو تواجه أزمة ديون سيادية، منها اليونان وإرلندا والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا، ما استنزف الموارد المالية لهذه البلدان ودفع صندوق النقد الدولي إلى تخصيص الأموال لتعويم عدد من حكومات هذه البلدان. كذلك تئن الولاياتالمتحدة تحت وطأة عجز قياسي في الموازنة الفيديرالية، تجاوز 1.4 تريليون دولار، ما دفع السياسيين من الحزبين الرئيسين إلى تبني سياسات تقشفية تهدف إلى تقليص العجز على مدى السنوات المقبلة. وعلى رغم وجود هذه المشكلات، قررت مجموعة الثمانية في اجتماعها الأخير في دوفيل في فرنسا، تأسيس صندوق مالي لدعم مصر وتونس بقيمة 20 بليون دولار على أن تدعم هذا الصندوق البلدان الصناعية والمؤسسات المالية الدولية وعدد من بلدان الخليج. فهل تنعش هذه الأموال اقتصاد مصر والاقتصاد التونسي؟ يظل هذا سؤالاً مهماً وستتضح الأمور، ربما، بعد مرور زمن طويل. كيف يمكن لهذه الأنظمة، التي نأمل بأن تكون ديموقراطية، من تطويع أوضاعها الاقتصادية وتتعامل مع استحقاقاتها في ظل هذه الحقائق الصعبة؟ لا بد من أن تحدد الأنظمة الجديدة استراتيجيات تنموية مقنعة وواقعية، وعليها أن تحدد عناصر الشفافية وآليات محاربة الفساد الذي استشرى فيها على مدى السنوات والعقود الماضية. وأهم من كل ما سبق ذكره، ضرورة تبني هذه الأنظمة فلسفة الإصلاح الهيكلي، وعدم تقييدها الاستثمار الخاص لئلا يعزف المستثمرون الأجانب عن توظيف أموالهم. برزت أصوات أخيراً تطالب بإعادة تأميم الشركات التي خُصصت خلال السنوات الماضية، كما تعرض عدد من المستثمرين في هذه البلدان إلى مساءلات في شأن ما خُصص لهم من أراض ومساهمات في عدد من الشركات، ما أثار التوجس والخشية على الأموال المستثمرة وعزز درجة المخاطرة السياسية للاستثمار في هذه البلدان. هناك ضرورة لإعادة تقويم الأنظمة والقوانين وكيفية تأهيل المستثمرين المحليين والأجانب، وكذلك مراجعة ترسية الأراضي والمساهمات، ولكن يجب ألا تكون هذه الإجراءات مناهضة لفلسفة الاستثمار وقيم اقتصادات السوق. فالمطلوب هو تعزيز عمليات الاستثمار وجذب الأموال التي يمكن أن توجد فرص عمل للمواطنين لأن هذه البلدان لا يمكن أن تنتعش اقتصادياً بمعزل عن العالم الخارجي. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية - الكويت