«نحن ثُرنا من أجل الحرية ومن أجل أن يصبح الليبيون أحراراً، نحن لم نأتِ من أجل الكراسي أو السلطة» هكذا قدّم معمر القذافي نفسه في خطابه في شارع عمر بن العاص في بنغازي في أيلول (ستمبر) 1969، وجعلنا نفتح له الطريق كى يبدأ في سلبنا حقوقنا وحرياتنا ويحول ليبيا إلى مزرعة يقطنها أقنان يعمل على توريثهم لأبنائه في واحدة من أسوأ أنواع الديكتاتوريات التي شهدها التاريخ، فخلف التغني «بالحرية... والليبيين الذين صاروا أحراراً» وعبر رحلة شاقة لأربعة عقود تم خداعنا، فعلق الشباب على المشانق وملئت السجون بالمعارضين، ونفرت الدماء في غرف التعذيب، وصفي الليبيون داخل وطنهم وخارجه وهدمت البيوت على رؤوس الأطفال، وفي ظل «التعفف عن الكراسي والزهد في السلطة» وضع الطاغية أسس نظام استبدادي قلّ أن شهد التاريخ مثيلاً له، لندفع ثمن ثقة ساذجة وتساهل عبيط. لكن الطاغية لا يتحمل مسؤولية ما حدث وحده، فنحن أيضاً مسؤولون لأننا صدقنا، وقتذاك، الشعارات ولم نحاول الغوص بتفكيرنا إلى أعمق من مجرد القبول بوعود الحرية والزهد في السلطة، كما أننا لم نتقصّى اتجاه الأمور منذ البداية ولم نعبّر عن مخاوفنا. يجب أن نقر بأننا مسؤولين حتى نستخلص الدروس من التجربة القاسية ونكتسب القوة الضرورية لمنع أى قذافي آخر من الركوب على ظهورنا. وإذا كان أهل ولاية ويسكونسن الأميركية يقولون «في المرة الأولى نستطيع لوم الآخرين، إلا أننا في المرة الثانية لن نلوم إلا أنفسنا» فإننا في ليبيا لا يمكن أن نكتفي في تعاملنا مع سياسيي المشهد الليبي اليوم بالتوقف عند «التغنى بالحرية» أو وعودهم «بالانسحاب من السلطة» بمجرد استكمال تحرير البلاد بل لا بد أن نعمل العقل في ما يحدث ونتقصّى آداءهم السياسي ومدى تطابقه مع المهام المنوطة بهم وكذلك مقدار ملاءمته مرحلة التحرير التي ما زلنا نخوض فيها. لا يعني هذا اتهام أي من أعضاء المجلس (المعارضة) بأنه سيكون بدموية الطاغية أو جنونه أو وحشيته، إلا أن المخاوف من ديكتاتورية جديدة هي مخاوف مشروعة، كما أن الخشية من أن يجد الفساد طريقه إلى مستقبلنا هي خشية مبررة، وهي ليست نتاجاً لتحليل نظري ولكن لأن بعض مقدمات ذلك ربما يكون قد بدأ يلوح في الأفق من خلال سلوكيات سياسية لا بد أن تناقش بصراحة تفرضها جدية المرحلة وجسامة التضحيات. إن الدعوة إلى تأجيل التناول النقدي لأداء المجلس الانتقالي هي في الحقيقة دعوة للسكوت عن السلبيات حتى تتضخم ونجد أنفسنا من جديد في نفق مظلم، إنها ببساطه دعوة لفتح الطريق من جديد للمظالم، وعلى من يعتلي منصة العمل العام في ليبيا الثورة أن يتقبّل النقد باعتباره موظفاً لدى الشعب. لا بد أن نتذكّر أولاً أن ثورة شباط (فبراير) قد نبعت من الشارع كتعبير شعبي عن رفض القمع والاستبداد وأنها استطاعت من خلال بطولات شبابها حشد مئات الآلاف من الليبيين في المعركة التي بدأت سلمياً ثم تحولت إلى حرب تحرير شعبية، ما يعني أن من غير المقبول الزعم بقيادة الثورة من أي طرف كان، فثورة ليبيا ولدت بلا قيادات، مع حفظ أدوار أولئك الشباب الذين شاركوا في اليوم الأول، إن الجميع لم يفعل أكثر من الالتحاق بالثورة بعد أن أزهق كثير من الأرواح وذرف الكثير من الدموع وقدم الكثير من التضحيات، وإن «المجلس الوطني الانتقالي» حتى، الذي أعلن بعد أكثر من أسبوعين من سقوط الشهداء في بنغازي والبيضة ومصراتة والزاوية لا يصح لأعضائه أن ينسوا أنهم ليسوا منتخبين أو أن يتصرفوا بخلاف ذلك. ولو كان للتاريخ أن يلتقط صورة لملحمة الثورة في ليبيا فإن السياسيين الذين يملأون المشهد الآن – بمن فيهم كاتب المقال - سيظهرون في زاوية صغيرة في خلفية الصورة التي سيتصدرها زيو ونبوس وبوشحمة ومهند وباقي شهداء الثورة وكذلك رفاقهم ممن يقاتلون اليوم على مختلف الجبهات. يمثل غياب الشفافية وبخاصة على المستوى المالي، أحد أهم الظواهر التي تبرر مخاوف الليبيين، فعلى أنقاض نظام استبدادي اعتبر المال العام شأنه الخاص يتصرف فيه كما يشاء، لا زال المسؤول المالي للمجلس عاجزاً عن مواءمة أرقامه وإصدار تقرير حسابي دوري يمكننا من متابعة التصرفات المالية، وعلى رغم أنه وعد بتقرير أسبوعي إلا أننا لم نرَ شيئاً، وبينما يتحدث الإعلام عن أكثر من مليار دولار تم التصرف بها خلال الأشهر الثلاثة الماضية لم يعرف الناس كيفية حصول ذلك، هل الموضوع هنا عدم رغبة في مشاركة الناس؟ أم إنه ببساطة عدم قدرة. كما يمثل عدم التوازن بين أوجه الإنفاق المالي أحد أسباب تلك المخاوف، فبينما يعجز المجلس عن مواجهة الأعباء الإنسانية تجاه المهجرين الليبيين في تونس، والطلاب المبعوثين الذين طردوا من بيوتهم بسبب انقطاع المنح الدراسية، وتوفير ضرورات العلاج لضحايا الحرب، يتصرف بعض أعضاء المجلس ببذخ وزراء الدول النفطية سواء في السفر أو الإقامة أو استئجار المكاتب والضيافة، الأمر الذي لا يعكس إدراكاً من طرف هؤلاء بأننا نخوض حرباً تفرض سلوكيات متقشفة بخاصة وهم ينفقون مالاً عاماً أو أموالاً سنكون مدينين بها، وهنا أود أن أذكّر هؤلاء بقصة ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا عند زيارته أدنبرة خلال الحرب العالمية الثانية، فبينما كان مستقبلوه ينتظرونه أمام باب الدرجة الأولى في القطار، نزل من باب الدرجة الثانية، وعندما سألوه: لماذا سافرت في الدرجة الثانية؟ أجابهم «لأن ليس في القطار درجة ثالثة»، مجسداً في تصرفه كيف يكون توفير المصروفات في أيام الحرب من قبل المسؤول الجاد. إلا أن الظاهرة الأكثر خطورة هي ما يبدو من جهد لبعض أعضاء المجلس للإعداد لحكومة «أمر واقع» بينما الرجال غائبون في الجبهات أو محاصرون في مدن لم تتحرر بعد، هذا الإعداد المتمثل في محاولة توظيف إعلام الثورة لتلميع البعض، بل وتقديمهم على أنهم أبطال وفدائيو الثورة وإضفاء الألقاب عليهم، وعقد المهرجانات الشعبية لتكريمهم، بل ومدحهم بأبيات صيغت أصلاً لرثاء شيخ الشهداء «عمر المختار». إن الدعاية الانتخابية حق لمن أراد ولكن بشرط ألّا يكون عضواً في المجلس الانتقالي، وإلّا يستعمل إعلاماً محسوب على الثورة. كذلك فإن التكتم الشديد في رسم السياسات وتحديد الاستراتيجيات، بل والتفرد في وضع خطط مستقبلية لليبيا بما فيها مشروع للدستور ونظام الحكم وإعادة البناء من دون آلية تضمن مشاركة واسعة في الحوارات، يبدو كمحور ثانٍ لفرض حكومة «الأمر الواقع»، وهو يعكس سلوكيات نخبوية متعالية لا يمكن أن تكون نتاجاً صحياً لثورة ما زالت تقدم الدماء من غرب البلاد إلى شرقها، الأمر الذي ينسحب أيضاً على التعيينات في المجلس ولجانه من دون الاستناد إلى أي معايير واضحة ما عدا الولاء لأعضاء بعينهم، كما يبرز هنا طوفان رجال النظام السابق (ومن دون الانتقاص من وطنيتهم ومن حقهم في المشاركة بالثورة) على مراكز القرار في المجلس الانتقالي، بحيث صار معظم من يتحدثون مع العالم باسم «الثورة» هم أنفسهم من كانوا يتحدثون باسم «القائد» منذ أسابيع وكأن هناك عملية مستعجلة لتوظيف بيروقراطية حكومة «الأمر الواقع». لتتكامل المخاوف مع الإصرار من قبل بعض أعضاء المجلس على إبقاء ملفات مهمة مثل النفط والمالية والخارجية والإعلام مهاجرة، وكأن المقصود حجبها عن الساحة الوطنية، الأمر الذي يمثل المحور الثالث لفرض حكومة «الأمر الواقع»، إن حرصنا على المجلس الوطني، ومساندتنا له، والوعي بأهمية دوره في هذه المرحلة يدعونا لطرح مخاوفنا هذه على رئيس المجلس وبقية الأعضاء المناضلين الذين ينجزون الواجبات المهمة في صمت، كما يدعونا لأن نطالبهم بأن يقوموا بدورهم لمعالجة هذه المخاوف، فالشفافية المالية ضرورية، ولا بد من وجود مسؤول قادر على استيفاء شروطها، كما يجب أن يتغير «نمط الإنفاق» ليعكس سلوك مناضلين جادين في زمن الحرب، وأن يخرج كل من يحاول العمل على فرض حكومة «أمر واقع» من المجلس للتفرغ لمشروعه ولحملاته الانتخابية، كما تجب عودة الملفات كافة إلى الوطن وألا يتخذ أي من المسؤولين مقره خارج ليبيا، ويجب أيضاً وضع آليات تضمن توسيع دائرة الحوار حول السياسات، وإعلان معايير التعيين، ومطالبة بيروقراطية النظام السابق – المنضمة إلى كوادر الثورة - بمصارحة تتيح لنا فهمهم، وفاء للدماء الزكية التي لا زالت تراق وكذلك حرصاً على ألا نعيد إنتاج «الديكتاتورية» بينما نتغنى بالحرية. * سياسي ليبي وخبير نفطي وبيئي