في مقدمة رواية «دجين» يذكر المؤلف أنّ حكاية بطل روايته سيمون لوكور تستعصي على التصنيف. يعثر المؤلف على مخطوط (وهي فكرة روائية شائعة) تركه بطله بعد اختفائه. المخطوط نص عويص وإشكالي ومتصدع وناقص كأن كاتبه ينظر للأشياء والعالم عبر موشور أو يعيش كابوساً متقناً. نقرأ مذكرات سيمون لوكور المكتوبة بلغة فرنسية نحوية سليمة تصلح للتعليم في المدارس... وفيها يقصد لوكور مكاناً يلتمس فيه عملاً فيجد رجلاً اسمه دجين ثم يكتشف انه امرأة ثم دمية أزياء ثم يعرف انه امرأة تأمره بالذهاب إلى شارع معين، من غير أن تكشف له عن معنى المهمة أو هدفها... يخرج من المكان بعد أن يفضي لها قائلاً: أنّ الصراع بين الجنسين محرك التاريخ! ثم يقصد الشارع ماراً بمطعم فيجد امرأة تراقبه فيتركها مغادراً فيجد طفلاً جريحاً يدّعي فقدان الوعي، ثم تظهر طفلة اسمها «ماري» تشبه الطفل، يسألها إذا ما كان الطفل «جان» يموت غالباً؟ وعن عدد المرات التي مات فيها أبوها؟ وعن أمها فتخبره أن امها لن تعود. ثم تقول إن الطفل هو زوجها وليس أخوها؟! ثم تناوله رسالة باسمه وما أن يستلمها حتى يبعث الطفل حياً، ثم تصرح له الطفلة بأنهما ولداه وانه أبوهما! ثم تذكر اسم شخص ثالث غير موجود وتزعم انه موجود ثم تقول له إن ما تدعيه هو هراء فهي بطلة في مسابقة الكذب في المدرسة. يضعان له نظارات عميان كتيمة فينقاد لهما تحت تهديد سلاح «خفي» فيستنتج انه نوع من الإنسان الآلي، وأن المنظمة حولته إلى شخصية لإيقاظ شفقة الناس. ثم يتم تبليغه بأن المنظمة غرضها النضال ضد مفهوم الآلية والسعي للتحرر من امبريالية الآلات بالإرهاب السلمي والفعل المسرحي في الشارع والأسواق والمعامل... يسترق النظر فيرى صورته المستقبلية على الحائط بعد ثلاث سنوات، ويقرّ بأنه شخص اوديبي ما دام قد قبل بالعمى الطوعي، ثم يقول للسيدة دجين انه يتذكر بقوة ما لم يحدث بعد، وانه لا يعرف التاريخ؟ وهل هو حي أم ميت. يكتب السيد سيمون لوكور الفصل الأخير من مذكراته الخيالية العجيبة بضمير أنثى، ثم تعثر الشرطة على جثة أنثى مقتولة، ليس لها أي اسم في قيود النفوس وهي تشبه السيد لوكور، وتنتهي الشرطة إلى أن لوكور قد يكون امرأة تنكرت وعاشت بشخصية ذكر اسمه سيمون، لكن تقريراً طبياً شرعياً يذكر أنّ سيمون ذكر قطعاً. هذه متاهة حكائية يعرضها غرييه، بقص جيد، مغر، معذب، نافر، مفارق. كتب عن اطروحته الروائية مقالات كثيرة نشرها في مجلة الاكسبريس ثم جمعت في كتاب اسمه «نحو رواية جديدة» جاء في احدها: «لن تكون الأشياء انعكاساً باهتاً لنفس البطل المبهمة، وصورة لآلامه، وظلاً لرغباته، بالأحرى، إذا حدث واستخدمت الأشياء لحظة واحدة كقاعدة للأهواء الإنسانية، فلن يكون ذلك إلا بصفة وقتية. لن تقبل الأشياء طغيان المعاني إلا ظاهرياً لتبيّن لنا إلى أي حدّ تظل غريبة عن الإنسان». يعدّ المهندس الزراعي الفرنسي آلان روب غرييه (1922 - 2008) من اشد المعادين للرواية التقليدية الخطية، ومن المجددين في الرواية مع عدد من الكتاب الطليعيين والمنشقين مثل كلود سيمون ومارغريت دوراس... من رواياته «الممحاة» 1935، «العرّاف» 1955، «في التيه» 1959، «المتلصص»، «الغيرة»، «في المتاهة»، «مقتل الملك»، «مشروع من اجل ثورة في نيويورك». ترجمت أعماله إلى ثلاثين لغة، حصل غرييه على جائزة لويس دولوك الأدبية عن روايته «الخالدة» وشغل منصب أستاذ في جامعة نيويورك ومدير مركز الدراسات السوسيولوجية للأدب في جامعة بروكسيل. له مساهمات في السينما بلغت ثمانية أفلام تأليفاً أو إخراجاً. في فيلم «قطار أوروبا السريع» الذي ألفه سعى إلى تحقيق قوانين السينما (الصادقة) الواقعية حرفياً، والتسجيلية فوتوغرافياً: معقولية الأحداث ومنطقيتها كما تجري في الحياة اليومية وقد لجأ غرييه في مجال الفن السينمائي إلى فكرة السيناريو في السيناريو وهي الفكرة نفسها التي استخدمها بيراندللو في مسرحيته (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) أي فكرة المسرح في المسرح، وتلعب الكاميرا عند غرييه الدور الرئيسي في التعبير عن التخيل الواقعي فهي دائماً حاضرة في أعين الممثلين، ماثلة في ذهن المتفرجين تسجل كل شيء حتى إن الجمهور ينسى أنه أمام عرض فيلم. «الرواية الجديدة» عنوان لاتجاه جديد في الرواية ظهر في فرنسا في أوائل الخمسينات من القرن العشرين وقد ظهر هذا المصطلح كعنوان في سلسلة جديدة من الروايات في دار نشر فرنسية هي مينوي وكانت تضم روايات جديدة لميشيل بوتور وآلان روب غرييه وناتالي ساروت، والفضل في ظهور هذا الاتجاه الروائي يعود إلى رئيس دار النشر هذه جيروم لنينلا وان، اذ طبع عدداً من الأعمال الروائية المنفردة والغريبة التي كانت ترد إليه من قبل أصحابها، وهكذا ظهر تيار الرواية الحديثة إلى الوجود واعتبرها الناقد لوسيان غولدمان في حينه مدرسة روائية جديدة تخرج على المألوف الروائي وتصنع أدواتها ونظمها وقوالبها من خلال تجاربها وزمنها ومنجزاته الحضارية وتراكماته النفسية.