لا يقدم إلينا مؤلف هذا «الكتيّب»، الناقد السينمائي العراقي فراس الشاروط، ما يوحي بأنه يختار لكتابته المعنونة ب «السرد الروائي ..السرد الفيلمي: ضرورات المعالجة النقدية « نموذجاً خاصاً في السينما التي تقتبس عن الأدب، ولولا ملصق فيلم «زوجة الملازم الفرنسي» الذي يحتل الغلاف، لأمكن القول إن الشاروط ينحو منحى عمومياً في الكتابة النقدية عن هذه النوعية من السينما، التي لم تتوقف أبداً عن «مراوغة» الأدب في الأفلمة وطرقها وطرق التأثير فيها، باعتبار أن الرواية والسينما «فنين مختلفين». فالمؤلف يستند هنا إلى قولين شهيرين يعودان في الواقع النقدي والسينمائي إلى انغمار برغمان وآلن روب غريّيه. ففيما اختزل الأول المسألة بقوله إن الفيلم لا علاقة له بالأدب، توّسع الثاني حد التطرف كما يرى الشاروط حين قال: «أنا أواصل انجاز أشرطة، وكتابة روايات، وليس أشرطة برواياتي، ول اروايات بأشرطتي». يحاول المؤلف بالطبع أن ينقض الرأيين، وكلاهما لصانعي أفلام كبيرين، لكنه لا ينجح بالقدر الذي يتوخاه هنا، فليس تقديم رأي غريّيه بتعليقه على شريط «العام الفائت في مارينباد « ما ينقض بالفعل رأيه، وهو رأي يستند هنا إلى دراسات جمالية ونقدية وفيرة تراكمت عبر عقود من صناعة الأفلام. إذ يخبرنا غرييه في المقلب الآخر إنه قدم لآلان رينيه التقطيع الكامل للفيلم، أي أنه قدم له فيلماً متخيلاً كاملاً مزوداً بالمونتاج، وهو النص الذي نشره في ما بعد كرواية مصورة. وهذا أمر بالتأكيد لم يفت مخرج «زوجة الملازم الفرنسي» كارل ريز الذي لم يخبرنا عنه الشاروط الشيء الكثير، كما يفترض، حيث أن الكتيب (54 صفحة من القطع الصغير وصادر حديثاً عن منشورات منتدى صحبة السينما في جنوب العراق) المخصص لمناقشة فيلمه الأشهر، يبخل علينا بالتأريخ لسيرة هذا المنظّر السينمائي الكبير في كتاباته وتنظيراته عن المونتاج وتقنيات تحرير الفيلم السينمائي من كل ما يعيق نموه من داخله كجسم سينمائي مستقل، وحتى حين اقترب من رواية جون فاولز، بوصفها ابنة شرعية للعصر الفيكتوري، فإن مجرد إسناد إعادة كتابة الرواية للكاتب المسرحي الإنكليزي الراحل هارولد بينتر، يعني أن ريز على قلة شهرته وذيوع صيته بين أقرانه السينمائيين، حاول الالتفاف على تصنيفات هذا العمل الأدبي، وهو يقدم على أفلمته بما يملك من خبرات نظرية وعملية في هذا المجال الصعب والمعقد، ربما بما يغيظ فاولز نفسه، لأن ريز كان يعرف أيضاً أنه حين أسند الدورين الأساسيين لميريل ستريب وجيرمي ايرونز في الفيلم، إنما كان يضيف شيئاً باهراً إلى تقنية تحرير الرواية نفسها من المسوغات الأدبية التي قد ترهق العمل السينمائي، فيما لو قدر لها أن تتغلب بأمانة السرد والأنساق ونوعياتها الكثيرة التي يفرد لها الشاروط صفحات كثيرة من كتيبه هذا. فريز يدرك أيضاً أن الممثل يضيف هنا إلى النص وليس التقطيع والإضاءة وحركة الكاميرا هي من يمكنها تغيير اتجاه الرواية حين تكون أدباً فقط، ولو أسند الدورين إلى ممثلين غيرهما، بالتأكيد كنا سنحصل على فيلم مختلف وبرؤية مختلفة. لن يبتعد فراس الشاروط في الصفحات المتبقية، من الالتفاف النقدي والأدبي على جسم الرواية مستعيناً بمراجع كثيرة في هذا الصدد منعت على القارئ، وكذلك حال مشاهد الفيلم في وقت سابق من تصيّد المتعة الشخصية في اجراء مقارنة للحساسية التي أنتج فيها هذا الفيلم عن رواية تاريخية رأى الشاروط في صاحبها إنه يريد السخرية من قارئه بوصفه واعياً لا تقلل الألاعيب التي يقوم فيها من صفة روايته التاريخية. وهو لأنه صاحب موقف فكري، يرى أن الزمنين اللذين انسحب فيهما زمن الفيلم متطابقان تماماً. وبالرغم من الجهد الواضح الذي بذله الشاروط في قراءته لطريقة هارولد بينتر في كتابة السيناريو الفيلمي لهذه الرواية، فإنه لا يقلل من أهمية رأي فاولز نفسه في روايته حين يقول «إن الحوار الحقيقي في عام 1867 قريب جداً من كلامنا حتى أننا لا نعده قديماً بشكل مقنع «. هنا تتقاطع الآراء بخصوص «زوجة الملازم الفرنسي»، ففي حين يرى الروائي فاولز بداية الزمن الروائي مطابقة لسنة «رأس المال» و»تطور الأنواع»، أي سنة ماركس وداروين (1867) التي شهدت سقوط اليوتيوبيا الإنجيلية وبدء نشوء اليوتيوبيا البشرية بحسب المؤلف الشاروط، فإنه تنبثق هنا تلك الرؤية من احتفاء الكاتب بالميراث الروائي – التاريخي، والوعي به، مخالفاً بذلك ما أمكنه ومن دون ادعاء هذه التفصيلات التاريخية، ومن غير أن يصرح بذلك بالذهاب المضمر في ما ذهبت إليه المناهج الفنية مابعد المركسية (آلن روب غرييه ورولان بارت)، وهو ماسنراه بشكل حاسم في الرواية نفسها متعدد المقاصد الأدبية والنفسية. وبالتأكيد ينجح الشاروط في وضع تصور نقدي مراوغ للرواية والفيلم على حد سواء، بالرغم من الاستهلالات النقدية الكثيرة التي عبرت صفحات «الكتيّب»، فهنا ثمة نزوع واضح في العبور بين زمنين يؤرخ لهما فيلم «زوجة الملازم الفرنسي» أولهما يشي بمعرفة واضحة بأزمات العصر الفيكتوري، وهو ما عبر عنه في القراءة المطولة للأنساق السردية الخاصة بالنص الأدبي، وبخاصة أنها تخضع بالكامل لموروث الرواية الفيكتورية الكبير، الذي يجعل الهروب إليه واقعاً لا مفر منه، إذ يبدو أنه من المستحيل الكتابة من داخل القرن العشرين، والفيلم والرواية أنجزا في القرن الماضي، مع مراوغة بديهية لمنتجات العصر الفيكتوري سواء من خلال التأويل الأخلاقي لمستلزمات العيش فيه أو إنكار الحداثة نفسها، وهو أمر لا يحيرنا فيه المؤلف الشاروط، لأنه ينجح هنا في تحسّس ذائقة إضافية لم تكن ممكنة معه في الصفحات الأولى.