جرت العادة ألا يتم ذكر المآثر إلا بعد وفاة الشخص، أو انقراض الشيء أو العادة التي نتحدث عنها، إلا من استثناءات بسيطة، أحياناً لأن الناس يفطنون لأهمية «الميت» فجأة، وأحياناً لأنها تصبح فرصة إعلامية كتابية. سأستعرض لكم شيئاً بدأت ملامح انقراضه تدريجياً، لأحصل على سبق نعيه إعلامياً قبل انقراضه نهائياً، ولأنه كان جزءاً مهماً من تاريخنا التنموي، الاقتصادي، التعليمي. إنه الملف الأخضر الورقي المسمى «العلاقي»، وأول ما يتبادر إلى الذهن سؤال بعضكم عن تسمية «العلاقي»، والسبب أن له نهايتين معدنيتين تمكِّنان من «تعليقه» في الأدراج المعدنية العريضة الموضوعة في المكاتب، ولتقريب صورتها هي تلك التي كنت تراها في غرفة وكيل المدرسة حاوية ملفك. وسبب انقراضه أن كثيراً من جهات التوظيف والتعليم بدأت تتلقى الطلبات عبر الإنترنت، كما أن كثيراً من الجهات أدركت أن هناك ما يسمى أرشفة إلكترونية، وغيرها من طرق الأرشفة الحديثة، ووفقاً لتقرير قرأته عنه قبل عامين فإن عمره في حياة السعوديين قارب نص قرن من الزمان، وإن معدل استهلاكه يصل إلى 10 ملايين ملف سنوياً. وأطرف ما فعله هذا الملف أنه فتح بيوتاً كثيرة للفقراء ومحدودي التعليم، إذ تجد عند أبواب بعض الجهات الحكومية من يبيعه بعشرة أضعاف سعره لمجرد إرفاق نموذج طلب أو «معروض» فيه، والأطرف من ذلك أن فتحه وتثبيت الورق فيه ثم إعادته لوضعه الطبيعي عمل لا يجيده البعض على رغم سهولته. بعض ضعاف النفوس، في بعض «الأماكن» التي لم تعد تطلبه، لم يخبروا المواطنين بذلك، وأصبحوا يستقبلون الملفات، ثم يعاد بيعها، والحق أنهم كانوا لطيفين، فهم لم يجبروا أحداً على تقديمه لكنهم سكتوا عن استمرار بعض المواطنين في عاداتهم. الفقيد، عفواً أقصد من سيصبح فقيداً قريباً، يُستورد من كل مكان تقريباً، ويصنع محلياً، وأشهر أنواعه الأميركي، اللبناني، الإماراتي، والسعودي، وللأسف فإن المصنَّع منه إقليمياً ومحلياً «لك عليه» من حيث الجودة والسعر الذي يتراوح بين ريال واحد لصاحب القرطاسية الغشيم، وريالين لمن يعرف السوق، وأكثر من ذلك للتاجر الجشع. يباع في صناديق كرتونية يحوي واحدها 100 ملف من دون مشابك، وتأتي المشابك في علبة مرفقة. كان رفيق درب الطلاب، إذ تنقل ملفاتهم حتى الانتهاء من الثانوية، ليصبح رفيقهم في التقديم إلى الجامعات أو الوظائف، تجده دوماً على «طبلون» السيارات للشباب العاطلين، ول «الشيبان» المتقاعدين، خصوصاً هواة «المقارعة» و«الطلايب» على كل شيء تقريباً ومع كل الناس. كان من وسائل التهديد والوعيد، فالطالب المشاغب يهدد بتسليمه ملفه، والمتقدم لوظيفة من دون واسطة يهدد برمي ملفه أو إهماله، تجده في كل قائمة مشتروات حكومية للقرطاسية حتى لو لم تكن هناك حاجة له، وأثق أنك ستظل تجده في المكتبات لعقدين من الزمان. [email protected]