تنفرد فلسطين عن قريناتها العربيات، بتفرّد الكتابة عن تاريخها، لأن هذا الأخير متداخل بشدة مع كل تاريخ وطني عربي على حدة، ولصيق بحصيلة التواريخ العربية مجتمعة. صحيح أن لا وجود لأية جغرافيا معزولة، حتى يكون تاريخها معزولاً، لكن الصحيح أيضاً أن الجغرافيا الفلسطينية حالة «نادرة»، لذلك فإن تاريخها حافل بثقل الخارج والداخل، بحيث تكاد المعادلة تنقلب في مصلحة العامل الخارجي، بسبب من الأوزان الثقيلة التي قررت، من الخارج، مصير فلسطين الجغرافي، وما زالت تعيد صناعة وقولبة مصيرها الاجتماعي والسياسي. ضمن السياق التداخلي، كتبت روزماري سعيد زحلان، عن «فلسطين ودول الخليج» (صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت، بالتعاون مع عبدالمحسن القطان للقضية الفلسطينية)، وحاولت تتبع «العلاقات الفعلية» بينها، من خلال محطات تاريخية عديدة، بدأت مع افتضاح أمر «وعد بلفور»، وحطت رحالها في عقد التسعينات، وذلك في انتظار متابعة أخرى، تستحضر ما حفلت به «فترة الما بعد»، التي ما زالت صاخبة وخطيرة، وفقاً لكل المقاييس السياسية. على صعيد عام، يسجل للكاتبة أنها أضاءت جوانب «غير معروفة» أو منسية، من تاريخ العلاقات الفلسطينية – الخليجية، وأنها كانت محقة عندما لاحظت قصوراً في تتبع المسارات الخليجية، وفي فهمها، الأمر الذي أدى إلى «كتابة إسقاطية»، عموماً، لا ترتكز إلى الوقائع الحقيقية، بقدر ما تغرف من خزان الأخيلة الاستشراقية. في المقابل، يسجل على الكاتبة أنها ابتسرت التحليل، عندما عاينت بعض المحطات السياسية المهمة، من قبيل الغزو العراقي للكويت، والموقف الفلسطيني منه، واختزلت التحليل السياسي الذي يمكن أن يحيط إحاطة أوسع، بالظروف التي أطلقت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وبالسياق الذي أدى إلى حديقة البيت الأبيض الأميركي، حيث وقعت اتفاقية أوسلو. إلى ذلك، ثمة توسع في ذكر السياسات الأميركية والبريطانية، واستطرادات في قراءة المحطات «التاريخية»، مما جعل التوسع في الشرح من نصيب «الغير»، في حين أن القراءة العلائقية، الفلسطينية - الخليجية، لم تفز إلا بنصيب قليل من متن الشروحات وخلاصاتها. بعد ذلك، ماذا قالت الكاتبة عن موضوعها؟ لقد عادت بالذاكرة السياسية إلى الثلاثينات، وبالتحديد إلى الإضراب العام الذي نفذه الفلسطينيون من عام 1936 إلى عام 1939، وأشارت إلى الدعم المالي الذي تلقته الحركة الشعبية الفلسطينية من الكويت والبحرين ودبي والشارقة، على رغم الأوضاع السياسية والاقتصادية التي كانت تعانيها تلك البلدان. لقد أطلقت التحركات الفلسطينية، حركة سياسية عربية موازية، فكان مؤتمر بلودان، وكان التدخل السياسي للمملكة العربية السعودية، ممثلة بملكها عبدالعزيز، الذي رفض محاولة استرضائه بإضافة مساحات جغرافية إلى مملكته الوليدة، إذ بحسب جورج رندل، المدير في وزارة الخارجية البريطانية، «لا يمكن أن يستجيب الملك عبدالعزيز لرشوة سياسية... وأن الأمر يتعلق باتساق مبادئه، هو الذي أمضى ساعات يشرح للموفد البريطاني، أهمية التوصل إلى حل عادل للمشكلة». الموقف السعودي المبكر، هذا، سيجد من يتابعه في محطات لاحقة، مع الملك سعود، والملك فيصل، والملك فهد، والملك عبدالله، ويتجلى في محطات صراعية عديدة، كان أبرزها محطة الهزيمة العربية عام 1967، وبعدها الحرب العربية - الإسرائيلية عام 1973، ومن ثم الحرب العراقية - الإيرانية، وما نجم بعدها من غزو للكويت، ومن حملة دولية على العراق، أدت إلى تحرير البلد الخليجي، وإلى جملة التطورات العراقية العاصفة، التي صارت واضحة للعيان. ضمن المسيرة هذه، تجدر الإشارة الخاصة، إلى الاستخدام المجدي لسلاح النفظ، عام 1973، مما كانت له آثاره على القضية الفلسطينية، وعلى الموقف الأوروبي منها. التجلي الأهم كان في دعم الحضور الدولي للشعب الفلسطيني، واعتلاء ممثله آنذاك (ياسر عرفات) منبر الأممالمتحدة في عام 1974، لمخاطبة العالم، عارضاً عليه خياري الحرب والسلام. المخاطبة هذه، وجدت دعمها لدى دول الخليج، مالياً وسياسياً، وعلى صعيد الاقتراحات العملية. ضمن هذا الإطار «التفاعلي»، يمكن ذكر إعلان البندقية، ومشروع الملك فهد للسلام، والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، أي ما يعادل تكريس «الاستقلالية الوطنية» التي كانت، ولا تزال مطلباً شعبياً أساسياً ومحورياً، في مسيرة النضال الفلسطيني. تشير الكاتبة في السياق، إلى حراك سياسي عربي، رافق تطورات الصراع العربي - الإسرائيلي، فجاء بعضه كاستجابة داخلية لمطالب «وطنية خاصة» استظلت الراية الفلسطينية، هذا صحيح، لكن الصحيح أيضاً رؤية العلاقة الجدلية التي تربط كل تقدم محلي عربي، بالأثر الإيجابي على مجمل القضية الفلسطينية. على خط نقيض، تكشف الكاتبة جوانب أساسية من الخطة الأميركية التي ورثت الخطط البريطانية، فنقع على سعي حثيث من قبل الساسة الأميركيين، لعزل الخليج عن بقية الوطن العربي، وعلى رفض سعيه إلى ممارسة أي لون من ألوان السياسات الوحدوية والقومية العربية. وعلى صم الآذان على اقتراحاته المتعلقة بحل مسألة الصراع العربي – الإسرائيلي، حلاً عادلاً ومتوازناً. الصلف الأميركي، والتجاهل المرافق له، أوردت مظاهرهما الكاتبة على لسان وزير خارجية أميركا هنري كيسنجر، ذاك الذي كان يسعى «إلى إغراق العرب بالاقتراحات، من دون التنازل عن أي هدف أساسي» وإلى تشتيت جهودهم، وإشاعة التمايزات والفرقة بينهم. وعلى هذه الخلفية التشتيتية، يمكن أن نقرأ الحرب العراقية – الإيرانية، التي جرت رعايتها على الطريقة الأميركية، ومعها يجب أن نلاحظ تراجع وزن القضية الفلسطينية عربياً، وعلى مستوى الخليج العربي. استكمالاً، ومن ضمن التداعيات، وجه غزو العراق للكويت، ضربة قاصمة للتضامن العربي، مثلما أضاف سابقة خطرة إلى سوابق التدخلات في الشؤون العربية. تولد عن ذلك اصطفاف جديد، دفع معه الفلسطينيون ثمناً سياسياً واقتصادياً كبيراً. كان لأولئك حيثياتهم، التي لا يجوز معها التعليق «بصح أو خطأ» فقط، وإن كان يجب القول إنها كانت بالغة السوء سياسياً، على مجمل الوضعية الفلسطينية. وقف الفلسطينيون بعد ذلك، «وحيدين»، ليس لأنهم قرروا ذلك، بل لأن ثمة مسارات عربية ودولية، وضعتهم أمام خيارات «أحلاها مر». لعل الإنصاف يقتضي كتابة أخرى، تاريخية، تعيد التدقيق في معاني اللحظة الفائتة، لأن المقصود الاستفادة، ولأن توظيف الخلاصات السياسية مطلوب، في هذه الفترة من فترات احتدام الصراع العربي - الإسرائيلي.