على مدى العقود الأربعة الماضية، ازداد انتشار أمراض التوحد والربو واضطراب الحركة ونقص الانتباه والسمنة والسكري والعيوب الخلقية بين الأطفال في جميع أنحاء العالم. وليس من قبيل المصادفة أن أكثر من 80 ألف مادة كيماوية تم تطويرها وإطلاقها في الأسواق خلال الفترة نفسها. منظمة الصحة العالمية تعزو 23 في المئة من مجمل الوفيات المبكرة إلى أسباب بيئية، في حين ترتفع هذه النسبة بين الأطفال، الذين تتراوح أعمارهم بين يوم واحد و14 سنة، لتصل إلى 36 في المئة. ويواجه الأطفال في عالم اليوم مجموعة كبيرة ومتداخلة من الأخطار الكيماوية والبيولوجية والفيزيائية والاجتماعية. تقرير "لا تلوِّث مستقبلي!"، الذي صدر حديثاً عن منظمة الصحة العالمية، يقترح أن هناك 5 أسباب بيئية أساسية تؤدي إلى وفاة نحو 1.7 مليون طفل دون الخامسة سنوياً. وتأتي أمراض الجهاز التنفسي الناتجة عن تلوث الهواء في طليعة هذه الأسباب، إذ تودي بحياة 570 ألف طفل. كما يموت أكثر من 360 ألف طفل بسبب الإسهال نتيجة تعذر الحصول على المياه النظيفة وخدمات الصرف الصحي. وتتسبب الملاريا بوفاة 300 ألف طفل، وهي مرض يمكن الوقاية منه باتباع إجراءات بيئية تشمل الحد من مواقع تكاثر البعوض وتغطية أماكن تخزين مياه الشرب. ويلقى 270 ألف طفل حتفهم خلال الشهر الأول بسبب ظروف مثل الولادة المبكرة التي يمكن الوقاية منها من خلال الحصول على المياه النظيفة، وتوفير خدمات الصرف الصحي، فضلا عن الحد من تلوث الهواء. في حين يموت 200 ألف طفل بسبب حوادث غير متعمدة ترتبط بالبيئة، مثل حالات التسمم والسقوط والغرق. المشكلة الأساسية في الأخطار التي تشكلها الملوثات الكيميائية على صحة الطفل هي أن الحكومات لا تقوم بعمل جيد من أجل تنظيم استخدامها، إذ لا توجد قيود مسبقة على المواد الكيميائية الجديدة التي تطرح في الأسواق من دون اختبار لسلامتها وتقييم لسميتها. تنساب المنتجات الكيميائية بشكل حر إلى المتاجر على شكل بضائع ومواد استهلاكية، ثم تدخل في دورة حياة المنتج وتصل إلى أجسام الأطفال. الرصاص كان من أول المواد الكيميائية التي اكتشف تأثيرها السمي على الأجهزة العصبية للأطفال، فهو يؤدي إلى خفض معدل الذكاء ويقلل من مدة الانتباه ويسبب اضطراباً في السلوك. وهناك فئة أخرى من المواد الكيميائية تسبب اضطرابات الغدد الصماء، وعند تسللها إلى جسم الطفل تتداخل مع الإشارات الكيماوية للهرمونات التي تفرزها الغدد، ويكون لها في كثير من الأحيان آثار سلبية جداً على نمو الطفل. ومن هذه المواد إضافات كيميائية سامة تدخل على شكل ملدّنات في تصنيع بعض أنواع المواد البلاستيكية وتعطيها القوام المرن. ويمكن لهذه المواد أن تهجر البلاستيك وتلوّث الأطعمة، وإذا استطاعت الوصول إلى الطفل وهو جنين في بطن أمه فهي قادرة على التسبب بتشوهات تناسلية، بخاصة لدى الأجنة الذكور. وكما الرصاص، يمكن للملدنات السامة أن تؤثر على النمو الدماغي وتخفّض معدل الذكاء. وثمة علاقة بين أمراض السرطان والملوثات الكيميائية. ومن اللافت أن معدلات سرطان الدم (اللوكيميا) لدى الأطفال ارتفعت بمقدار 40 في المئة خلال السنوات الأربعين الماضية. مع ذلك لا يمكن الحسم حول وجود علاقة حصرية بين هذه الزيادة وانتشار الملوثات الكيميائية، وإن كانت بعض المذيبات الكيماوية تدفع باتجاه هذه الزيادة من دون شك. وبشكل مشابه، تضاعفت معدلات الإصابة بالربو لدى الأطفال خلال السنوات الماضية، خاصةً في البلدان المتقدمة مثل الولاياتالمتحدة ودول أوروبا الغربية. ويعد تلوث الهواء من العوامل الرئيسية للإصابة بالربو حيث ترتفع معدلات الإصابة لدى الأطفال الذين يعيشون بالقرب من الطرق السريعة أو في أماكن مكتظة ضمن الأحياء الداخلية. كما يمكن أن يؤدي التعرض للتلوث الذي يصيب الجنين في بطن أمه، أو الطفل خلال أول سنتين من عمره، إلى آثار صحية طيلة العمر. أولى الدراسات التي قدمت براهين ثابتة على ذلك هي دراسات سوء التغذية أثناء الحمل، حيث وجد علماء بريطانيون تناولوا حالة الأطفال الهولنديين الذين عانوا من سوء التغذية خلال الحرب العالمية الثانية. فقد وجدوا أن هؤلاء الأطفال، عندما كبروا وأصبحوا في الخمسين والستين من العمر، زادت لديهم إلى حد كبير مشاكل ارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والسكتة الدماغية والسكّري. التعرض للملوثات البيئية، في أكثر الأحيان، لا يتجلى بأعراض يمكن تشخيصها سريرياً في شكل سهل. ففكرة التسمم بالرصاص لدى الأطفال في السبعينات كانت تناقش من منظورين: إما أن الرصاص يجعل الطفل مريضاً جداً كأن يصاب بالغيبوبة أو يتعرض للتشنجات أو يلقى حتفه، أو أن الطفل يتعافى وتنتهي القصة. لكن شيئاً فشيئاً، ظهر أن التعرض للرصاص، إن بدرجات منخفضة جداً، يترك أثراً على ذكاء الطفل وسلوكه. حماية الأطفال من التلوث إن الحد من تلوث الهواء داخل المنازل وخارجها، وتحسين المياه الصالحة للشرب والصرف الصحي، وحماية النساء الحوامل من التعرض للملوثات، وبناء بيئة أكثر أماناً، يمكن أن يحول دون وفيات الأطفال والإصابة بالأمراض. وتقدّر منظمة الصحة العالمية أن هذه الإجراءات تكفل الحفاظ على حياة حوالى 1.5 مليون طفل سنوياً دون الخامسة يلقون حتفهم بسبب الأخطار البيئية. أول خطوة يمكن للأهل القيام بها من أجل حماية أطفالهم من التلوث هي تخصيص جزء من وقتهم لتثقيف أنفسهم حول الملوثات مثل الرصاص والمبيدات والمواد الكيميائية الخطرة الأخرى. التسلح بالمعرفة يساعد جداً في حماية الأطفال من المواد السامة، ومن ذلك مثلاً: تقليل كمية المبيدات التي تدخل المنزل من خلال التحول للمنتجات الزراعية العضوية، واستخدام بدائل طبيعية للمبيدات الحشرية المنزلية، وتجنب شراء المواد ذات الأخطار الصحية المرتفعة مثل قوارير الإرضاع الصناعي التي تحتوي الملدنات السامة، وعبوات المياه البلاستيكية المصنعة من PVC. أثناء الحمل، يجب توفير الحماية للجنين من المواد الكيميائية السامة، ويشمل ذلك الامتناع عن شرب الكحول والتدخين. ويجب تفادي التعامل مع أي مواد يدخل في تركيبها الرصاص، لاسيما الطلاء. كما أن تناول الأسماك ضروري لنمو دماغ الطفل، ولكن فقط الأسماك غير الملوثة بالزئبق، والتي لا تحتوي على الكلور بنسب مرتفعة. كما يفترض بالأمهات الحوامل تجنب رش المبيدات الحشرية. وفي المدرسة توجد العديد من الأمثلة حول توفير الحماية البيئية للأطفال. الجهود التي بُذلت في الصين من أجل حض المعلمين على الإقلاع عن التدخين ساهمت في تحسين نوعية الهواء الداخلي في المدارس، وربما كان لها دور في التأثير على الأطفال في الابتعاد من التدخين. وفي أوستراليا تشارك العديد من المدارس في برنامج مجتمعي يهدف إلى حماية الأطفال من التعرض الزائد لأشعة الشمس. وفي الولاياتالمتحدة يوجد برنامج لتعليم الأطفال والمعلمين كيفية تدقيق ورصد نوعية الهواء الداخلي واتخاذ الإجراءات المناسبة لمعالجة مصدر الخلل. الإجراءات البيئية السليمة التي تطبقها الحكومات تساهم في خفض الأخطار الصحية للتلوث. وعندما أقرت وكالة حماية البيئة الأميركية إزالة الرصاص من البنزين في 1975، أدى هذا الإجراء إلى انخفاض مستويات الرصاص في دم الأطفال في الولاياتالمتحدة بأكثر من تسعين في المئة، كما سجلت زيادة بمقدار 5 نقاط في معدلات الذكاء لدى الأطفال في جميع أنحاء البلاد. وفي 1970، عندما اعتمدت الولاياتالمتحدة قانون الهواء النظيف، انخفضت الملوثات الهوائية الرئيسية الستة (الجسيمات الدقيقة، الأوزون الأرضي، أول أوكسيد الكربون، أكاسيد الكبريت، أكاسيد الهيدروجين، الرصاص) بأكثر من 70 في المئة. ومع هذا الانخفاض في الملوثات، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 250 في المئة. وهذا يتعارض مع المبررات التي تسوقها الإدارة الأميركية الحالية لتخفيف القيود على تلويث الهواء. ويتوقع أن تؤدي هذه التوجهات الجديدة إلى زيادة حالات الربو والالتهاب الرئوي والولادة المبكرة في الولاياتالمتحدة. تقدّر منظمة اليونيسف أنه في حال استمرار الأوضاع على ما هي عليه، فإن 60 مليون طفل دون الخامسة سيلقون حتفهم من الآن حتى سنة 2030. أما إذا استطاع كل بلد تحقيق أهدافه الإنمائية، فإن 10 ملايين طفل سيتمكنون من النجاة. * يُنشر بالاتفاق مع مجلة «البيئة والتنمية»