انقسمت الأوساط الاقتصادية الأميركية والعالمية حول التجربة الاقتصادية التي يجريها الرئيس دونالد ترامب، بين مؤيد ومعارض. المؤيدون، ومعظمهم من أعضاء حزبه الجمهوري ومديري الشركات الأميركية الكبرى، يشيرون إلى التجربة النيوليبرالية التقليدية التي قامت بموجبها الحكومات الغربية، بين منتصف سبعينات القرن الماضي ووسط ثمانيناته، بخفض الضرائب وتخفيف القيود التشريعية على الشركات، وفي الوقت ذاته دعوة المؤسسات الحكومية لخفض النفقات الحكومية. وتتمحور فكرة النيوليبرالية حول «إبقاء الحكومات الأموال في أيدي المواطنين»، ما يشجع على الاستهلاك وينشّط القطاع الخاص، فيقوم الأخير بالدور الذي يفترض أن تقوم به الحكومة. ولكن الجزء الأكبر من الجباية الضريبية التي ستتخلى عنها الخزينة الأميركية هي من ضرائب الشركات، لا لغالبية المواطنين، ما يدفع بعض الاقتصاديين إلى الاعتقاد أن الشركات ستستخدم الفائض لإعادة شراء أسهمها في الأسواق المالية، وتوزيع أرباح على المستثمرين، وهؤلاء غالبهم من المتمولين، ما يعني أن الجزء الأكبر من المال الذي ستستغني عنه واشنطن سيعود إلى نسبة ضئيلة من الأميركيين، واستهلاك هؤلاء لا يكفي لتنشيط الاقتصاد. ويعتقد معارضون لخطط ترامب خفض الضرائب، التي أظهرت آخر استطلاعات الرأي ارتفاع شعبيتها بين الأميركيين، أن الاقتصاد الأميركي ينتج بدرجة تقارب أقصى إمكاناته، ما يعني أن أي مال إضافي في أيدي المستهلكين سيرفع نسبة الواردات، ويرفع نسبة العجز التجاري، وستنتقل بذلك الأموال التي تستغني عنها الحكومة الأميركية إلى الشركاء التجاريين الذين تستورد منهم الولاياتالمتحدة، وفي طليعتهم الصين وألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية، ما حدا بأحد الخبراء إلى القول تهكماً على شعار ترامب الانتخابي، إن «خفض الضرائب الأميركية سيجعل الصين واليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية عظيمة مجدداً». ولافت أن «صندوق النقد الدولي، الذي دأب على مدى العقود الماضية على حض حكومات العالم على تبني تشريعات المدرسة الاقتصادية النيوليبرالية، انتقد خطوة ترامب. وقالت مديرته كريستين لاغارد إنها تخشى أن تشعل خطوة ترامب «سباقاً نحو الهاوية»، أي أن تقوم الحكومات بالتنافس على خفض ضرائبها لاستقطاب الشركات والمستثمرين. وأشارت في جلسة خلال مؤتمر ميونيخ للأمن، إلى أن «سباقاً من هذا النوع سيؤدي إلى تقليص عائدات الحكومات، وبالتالي تقليص تقديماتها الاجتماعية ونقل تكاليف هذه إلى المواطنين، ما يؤدي إلى تقليص النمو العالمي عموماً». واعتبرت أن «الحكومات حول العالم بحاجة إلى مال عام، ولا بأس أن تقوم بخفض الضرائب، بشرط أن تذهب الأموال إلى غالبية المواطنين، لا إلى قلّة من الأثرياء، على غرار قانون ترامب». وجاءت تصريحات لاغارد في وقت نشر عدد من وسائل الإعلام الأميركية استطلاعات أظهرت أن أكثر من نصف الأميركيين لم يلاحظوا أي زيادة في رواتبهم، حتى بعد الخفوضات الضريبية. ووفق القانون الجديد، ستنخفض الضريبة على من هم في منتصف سلم المداخيل بنسبة 20 في المئة، أي نحو 1090 دولاراً سنوياً، وهو مبلغ قد يبدو لا بأس به لأصحاب هذه المداخيل. ولكن المشكلة تكمن في أن هذا المبلغ سنوي، وعندما يُقسّم إلى 26 دفعة (يتقاضى الموظفون الأميركيون رواتبهم كل أسبوعين)، تصبح الزيادة على الراتب 41 دولاراً، وهو مبلغ بالكاد يلاحظه أصحاب الرواتب. وما لم ترتفع مداخيل الأميركيين في شكل ملحوظ، لن يساهم قانون ضرائب ترامب في تنشيط الاستهلاك في الشكل الذي يتوقعه الفريق الرئاسي، ما قد يؤكد مزاعم الاقتصاديين المعارضين للقانون ممن يصرّون على أن الجزء الأكبر من مبلغ 1.5 تريليون دولار الذي ستتكلفه الخزينة الفيديرالية، سيذهب إلى جيوب كبار المتمولين وشركاتهم. وإذا صحت التوقعات بأن المستفيدين هم من كبار المتمولين، مع ارتفاع العجز السنوي في الخزينة وتالياً الدَين العام، يعني ذلك أن الضرائب التي تدفعها غالبية الأميركيين سيستفيد منها الأثرياء على حساب الأقل ثراء، ما يعني أن الحكومة لم تتخل عن دورها كموزع للثروات من الأغنياء إلى الفقراء، وفقاً لقوانين الضرائب التصاعدية التي تتبناها الحكومات الغربية منذ عقود، بل باتت الحكومة توّزع الثروات من الفقراء إلى الأغنياء، وهي تجربة لا تروق لشريحة واسعة من الاقتصاديين الغربيين، وبعض الحكومات، خصوصاً الأوروبية القائمة على سخاء الرعاية الاجتماعية للمواطنين. ولكن تعميم تجربة ترامب الاقتصادية مرهون بنجاحها، فهي إن حققت نهضة اقتصادية متمثلة بنمو يفوق 3 في المئة، فإن نموذجه سيتحول إلى مدرسة تسعى حكومات العالم إلى تبنيها، ما يعني أن «سباق خفوضات ضريبية» أو «سباقاً نحو الهاوية»، وفقاً لتعبير لاغارد، آت لا محالة.