تجتمع عناصر كثيرة في السلسلة الوثائقية «تحقيقات الكوارث الجوية» لتجعل منها مادة إعلامية مميزة. هذه السلسلة، التي تبث على قناة «ناشيونال جيوغرافيك أبو ظبي»، تقدم مزيجاً خاصاً يتأرجح بين التراجيديا والريبورتاج الصحافي عبر اقتفاء مسار إحدى الرحلات الجوية من لحظة الطيران إلى لحظة الكارثة، وبين اللحظتين ثمة ملفات هائلة غامضة على السلسلة أن تكتشفها وتفك شيفراتها المعقدة للوصول إلى معرفة الحقائق حول حوادث السقوط المؤلمة. يسافر صانعو هذه السلسلة لأجل ذلك الغرض إلى أمكنة ومواقع عدة، إذ تنتقل الكاميرا من الأجواء إلى مكان المحنة، ومن أرصفة المطارات ومدارجها إلى غرف التحقيق، ومن مكاتب شركة الطيران المعنية إلى منازل ذوي الضحايا... وثمة، إلى جانب ذلك، اجتهاد للحصول على المواد الأرشيفية سواء كانت مادة مصورة، أو وثائق مكتوبة تخص الرحلة، ويُستعان، أحياناً، بالتصميم الغرافيكي، بل أن ثمة مؤثرات صوتية وموسيقى تصويرية حزينة ترافق التعليق الصوتي، ووسط كل ذلك يبقى «الشاهد الملك» هو «الصندوق الأسود» ذو اللون الأحمر! إن السرد القصصي الذي تقدم من خلاله تلك الحكايات يضفي على الحلقات بعداً تشويقياً يعتقد معه المشاهد بأنه يتابع فيلماً من أفلام الرعب أو الأكشن. ولكن مع فارق كبير هو أن ما نراه في الأفلام مجرد سيناريو متخيل، بيد أن ما يظهر في هذه السلسلة هو حقيقة مرّة، فالضحايا الذين سقطوا لن نجدهم في أدوار أخرى، و «الرحلة الأخيرة» في هذه السلسلة ليس عنواناً درامياً مجازياً، ومفترضاً، بل حدث واقعي جرى في مكان وتاريخ معلومين، وثمة شهود يلملمون أطراف الحكاية، ويروون، بلسان اللوعة والفقدان، اللحظات المرعبة التي سبقت ساعة الصفر. السلسلة تزخر بمعلومات علمية حول الملاحة الجوية، وهي تحفل بأرقام وإشارات ومصطلحات معقدة، لكن معديها يسعون إلى تبسيطها على نحو يلائم المشاهدين من المستويات كافة. والسؤال الذي يطرح هنا: ما الجدوى من عرض هذه المحن على الشاشة؟ لا تهدف السلسلة إلى استدرار العطف، أو تحويل المأساة إلى عرض إخباري جامد. على العكس من ذلك، فهي تستعيد بإجلال ذكرى الذين سقطوا، وتحاور ذويهم وأقرباءهم، ثم أن الغاية الأساسية من إنجاز هذه السلسلة، التي يشترك فيها فريق من مختلف الاختصاصات، هو تلافي الأخطاء التي تسببت في مثل هذه الحوادث، والارتقاء بمعايير السلامة في الرحلات الجوية. ولا شك في أن هدف صانعي البرنامج هو الوصول إلى تلك المرحلة التي يتعذر فيها عليهم إيجاد حدث مأسوي مماثل؛ جديد يضاف إلى السلسلة، وسيكون المشاهد راضياً إن وجد تلك الحوادث في أفلام الرعب والأكشن المتخيلة فحسب، بينما يحلّق المسافرون في الأجواء بأمان.