لم يجد علي (26 عاماً) ضالته المنشودة، إلا في السيجارة. قصيدة واحدة للشاعر الراحل نزار قباني كانت كفيلة بإقناعه بأن «التدخين يجذب الفتيات ويثيرهن». قرأ «واصل تدخينك يغريني»، وتماثل بالشاعر. تماهى به. قرّر أن يعيش تجربته. تبختر بسيجارته أمام فتاة أحلامه التي «ضحكت لأني لا أجيد التدخين»، كما قال. تمرّس على نفث دخانه على الزمان والمكان، آملاً بأن يكون الرجل الأروع في حياة امرأة «يفنى في الركن ويفنيها»، على طريقة قباني. فبدأ تدخينه دلع مراهقين... ولم ينتهِ التعلق بالسيجارة حتى الآن. قبل خمس سنوات، انطلق علي برحلته مع التدخين. حاولت أمه ردعه، لكنه صدّها: «لستُ أهمّ من نزار قباني... وإيجابيات السيجارة أكبر من مضارها... يكفيني أنها تقدمني للفتيات كرجل قوي وغامض، يغري النساء». إجابة، لا مبرر لها من وجهة نظر أمّ تخاف على حياة ابنها. غير أن صورة النجم في ذهن شاب، سواء أكان شاعراً أم رياضياً أم ممثلاً أم سياسياً، تحفر أثراً أكثر عمقاً من المضار والسلبيات، أو من مغامرات دون كيشوتية. الإغراء، الغواية، التحرر... مصطلحات التصقت بمبررات التدخين. ومثلما يبحث الرجل عن وسيلة لجذب انتباه الجنس الآخر، تجد بعض النساء في السيجارة محفزاً لتلك الصورة. فقد ارتبط الاغراء، في المشاهد السينمائية، بالسيجارة الى جانب الملابس والرقص على وقع موسيقى صاخبة. باتت انعكاساً شرطياً للإثارة. تلازمها في مطلق الأحوال. «أليس جميلاً أن يُقال انني مثيرة؟» تسأل جينا التي تدرس الفنون الجميلة في احدى الجامعات الخاصة، مشيرة الى أن السيجارة «توفر لي هذا الامتياز». ويبدو أن طريقة نفث الدخان، «تحدد ما اذا كانت المرأة تبدو مثيرة بسيجارتها أم لا»، ويتعلق ذلك «بالخبرة». غير أن الكثيرات من النساء المدخنات، لا يكترثن للصورة المغرية، بقدر ما يفضلن تقديم صورتهن المتمردة. وتقول زينة (31 عاماً) انها حين بدأت التدخين، كان همّها «تقديم صورة مختلفة عن سائر الفتيات». بمعنى أنها أرادت لفت النظر إليها والقول علناً إنها أكثر تحرراً وانفتاحاً. تحققت تلك الغاية. فاللوم «هو وجه آخر للشهرة»، على قاعدة «الدعاية السيئة هي دعاية أيضاً». ثم بدأت تفكّر بصورتها أمام معارفها. امرأة مستقلة، متمردة، غير خاضعة... كلها نعوت تصب في خانة «تأكيد الذات». ذلك التوجّه، يلتقي مع تفسيرات علم النفس الاجتماعي. «الاختلاف» هو أول الأهداف، ثم تُطبع صورة المدخن في ذهن الآخرين على أنها «شخصية تتمع بسلوك خاص، فيها من التمرد والاستقلالية ما يكفي لإعلان الخروج على السائد ورفض الخضوع»، كما تؤكد الاختصاصية في علم النفس ساندرا غصن. وتقول: «تقدم السيجارة شخصية مدخنها على أنه متميز بهوية معينة، تعزّز حضوره في المجتمع، ليتحول التدخين في ما بعد الى حركة عصبية لا واعية مرتبطة بسلوك الجسم كله، حيث تُشعل السيجارة في حالات الفرح والحزن والغضب والتأمل والتفكير، بالاضافة الى ملازمتها فنجان القهوة، في تأكيد على الانعكاس الشرطي للأشياء». أما التماهي بسلوك النجوم، فهو «خطوة أولى باتجاه التدخين»، كما تقول غصن، لكن السيجارة «تتحول لاحقاً الى حاجة نفسية وجسدية معاً». غير أن المدخنين الذين يتماهون بشخصيات «قيادية» في مختلف الميادين، يواصلون التبرير لما يقومون به، بطرح الشخصيات نموذجاً. حين يتعرض رامي اللاذقي لانتقادات، أو يلقنه والده محاضرة حول مخاطر التدخين، يقارن نفسه فوراً بلاعب كرة القدم الشهير موسى حجيج. «لو كان للتدخين تأثير سلبي في الرياضة، لأعاق حجيج عن تألقه منذ عشرين عاماً». كان رامي يشاهد حجيج يحمل سجارته أثناء التدريبات، قبل اعتزاله كرة القدم. منذ ذلك اليوم، اقتنع بأن «التدخين لا يؤثر في سلوك الرياضيين». جرّب ما مارسه الرياضيّ، وأدمنه. ذلك الدفاع الشرس عن التدخين، لطالما قوبل بتمنٍّ من المقربين منه: «يا ليتك تقتدي بكل سلوكيات موسى حجيج وتحقق انجازاته». والواقع أن التماهي بشخصيات عامة يشمل سياسيين واعلاميين وفنانين يدفع كثيرين إلى عادات سيئة كالتدخين. صورة الفنان زياد الرحباني بسيجارته على الشاشة، لا تفارق عشاقه. كذلك صورة النائب السابق نجاح واكيم الذي كان «يشترط السماح بالتدخين لقاء حلوله ضيفاً على الشاشة». أما الصحافي غسان تويني، فتلازم عبارته الشهيرة في آخر اطلالة تلفزيونية كل محبيه، حين سأل محاوره: «كم تبقّى لي من الوقت؟» فأجابه المحاور «خمس دقائق». ليردّ تويني بالقول: «أستطيع اذاً اشعال سيجارة». يبرّر المدخنون موتهم البطيء. ويعارضون قانون الحد من التدخين في الأماكن العامة التي تبدو بروادها منفضة ضخمة مليئة بأعقاب البشر. الزائر لمقاهي بيروت، هذه الأيام، يشم رائحة حريق البشر وموتهم. هنا، السجائر البيضاء تجتذب المدخنين كزملاء في مشغل الرحيل، وأخوة عاطلين من الحياة. ويغطي دخان السجائر والأراكيل سماءهم، ليتشكّل فوق الرؤوس مثل مذكرات احتجاج، وفي العيون غمامات غضب حمراء، فيما ينشد المدخنون مخدوعين... هدوء الحياة!