وصف المثقف الشاب المصريين بأنهم ركاب باص زجاجه أسود ويقوده مجهولون ببطء الى مكان مجهول. ورأى أن ركاب الباص يلهون بالتخبط والنقاش، فيؤسسون أحزاباً ويبحثون عن أفضل السبل لمحاربة الإخوان المسلمين. ودعا الشاب الى تجاوز حالة ركاب الباص وإهمال النقاشات النظرية وإكمال مسيرة الضغط من أجل مصر ديموقراطية بعيداً من هاجس الإخوان أو غيرهم، والمطلوب إكمال المسيرة لتجاوز موقف الحيرة الذي يجعل المتفائل غير مطمئن على تفاؤله. لم تستطع ثورة 25 يناير في عمرها القصير تكوين طقس مفاهيمي، فبدت في نظر نفسها والآخرين حركة غاضبين بلا برنامج. لكن هذه البراءة نجحت في كسر نظام مبارك، فكيف يطلب منها الإيديولوجيون تكرار طقوس ثورات عالمية؟ لن تكون قادرة على ذلك بحكم تكوينها، فضلاً عن ان العصر لا يحتمل ثورات يحن الإيديولوجيون اليها في كتب موضوعة أو مترجمة. وثورة 25 يناير، كما هي، حوّلها الثقف المصري الى حكاية وصورة وصوت، وكان أول الإصدارات كتباً تضم انطباعات عن ميدان التحرير وسائر الساحات في مدن مصر، وأفلاماً تشكل المادة الخام لسينما وثائقية أو روائية عن الثورة، وأغنيات أعطت صورة مغايرة عن الحشد، فلا تشبه أغاني سيد درويش الوطنية ولا تلك التي ضخت الحماسة في محطات ثورة 23 يوليو المتنوعة هزيمة وانتصاراً. أغنيات «25 يناير» تخاطب الفرد والناس حين يتآزرون في وطن يعنون به ويعنى بهم. حكايات الثورة في حكايات 25 يناير، كتب أحمد زغلول الشبطي: «سمعت من مكبرات صوت أغاني لداليدا، حلوة يا بلدي، وحدوته مصرية لمحمد منير، ومناقشة بين ضابط جيش شاب ومجموعة تلتف حول دبابة في مدخل شارع شامبليون وقول أحد الرجال للضابط «دا كرنفال يا باشا» ثم توجيه كلامه للواقفين «لو صدرت أوامر للباشا أن يضرب المتظاهرين لن يضرب»، صمت الضابط كأنه لم يستمع، قال أحد المتظاهرين: لكن، فيه ناس هاتضرب». وكتب عزت القمحاوي: «كان خوف الكثير من الكتّاب من قيم العولمة في بداية التسعينات شديداً، وكانت هناك تحسبات من وقوع الشباب العربي أسرى قيم الاستهلاك والخفة الاستعراضية، بينما كان نظام العصابة يضخ بأجهزة كومبيوتر ويسهل امتلاكها، ليس بوصفها أداة تنوير، بل بوصفها بضاعة مطروحة على المجتمع الذي حجزت له العصابة دور الزبون. وكان الختام على عكس التخوفات التي أصابت النخبة الثقافية وبعيداً عن تصورات العصابة التي ان رأت الشعب لا تراه إلا بوصفه زبوناً. جاء الانفتاح على العالم بوعي بالذات وبالحرية الفردية، والأهم من ذلك، الوعي بمستويات أعلى من التطلع الإنساني الذي يتخطى مطلب الخبز». وكتب أسامة الحداد: «كان المرتزقة يخفضون أعينهم، وهم يهربون من الشعب الذي فرضوا عليه الإتاوات، ومارسوا ضده كل أشكال القمع، وكانت الثورة تتطور، ومبنى الحزب الوطني على كورنيش النيل تتصاعد منه ألسنة اللهب، وأرى شعباً جديداً تخلص من كل ما زرعه النظام داخله، لم نر التحرش الجنسي، ولا نُشل أحد ولم تحطم سيارة بخلاف سيارات الشرطة، سيارات الجلادين أعداء الشعب، ولم يقترب أحد من متجر، واحترم الجميع دور العبادة، في سيمفونية للحرية غنينا للشهداء فيها فرحاً وابتهاجاً بعرسهم السماوي. سلاماً على شباب 25 يناير وشهداء ثورة اللوتس». وكتب عبدالمنعم رمضان: «كانت السلطات المؤبدة القديمة تفتح علينا كل يوم، خزانات نفاياتها وقاذوراتها التي لا تنفد، ومعها لم نعد نسمع، لم نعد نرى، لم نعد نشم، لم نعد نتكلم، لم نعد نتذوق، توقفت حواسنا الخمس، أصبحنا كائنات كرتونية، أصبحنا ملايين من الروبوتات، نموت قبل أن نموت، ونحيا قبل أن نحيا، في الميدان، اكتشف الشباب الأماكن الضائعة لخزانات الحضارة، وفتحوها، فاستعدنا حواسنا، صرنا ثانية كائنات بشرية، لنا ألسنة وآذان وأنوف وعيون وحناجر، نهتف لنطمئن على حناجرنا المولودة للتو، نسمع هتافات الآخرين وآراءهم لنطمئن على آذاننا المولودة للتو، نرى، نشم، نذوق، كانت الحواس المولودة تصل بنا الى قمتها، ونصل بها الى قمتنا، وعند قمم الحواس كان لا بد ان تولد الروح، رأيت هذه الروح في كل بقعة من الميدان، رأيت ميلادها في ميلاد النكتة، وفي ميلاد الحنان وفي ميلاد التسامح والعفو، تذكرت ان من لا يضحك لا يحزن ولا يحب». وكتب عز الدين شكري: «حين رأيت الشعب واقفاً معاً فهمت ان مصر قد تغيرت، من أعماقها، وأن عالمنا الروائي تغير، ربما الى الأبد». وكتب عماد فؤاد: «تعبنا من مصر التي «تمشي جنب الحيط»، تعبنا من مصر «لم نفسك علشان تعيش»، تعبنا من مصر «تراب الميري»، تعبنا من مصر التسلط والظلم والفساد و «تحت الترابيزة»، تعبنا من مصر المداهنة والغش والنفاق والرشوة والمحسوبية والتعريص باسم الوطنية، تعبنا من مصر الباشا والبيه وسيادة اللوا والمأمور وكفّ المخبر، تعبنا من مصر الجبانة، وها هي الصرخة تأتي من ميدان التحرير». وكتب محمود الورداني: «لم يكن ميدان التحرير وحده الذي تم تحريره، كانت مصر كلها ميدان تحرير: شبرا وبولاق الدكرور وبولاق أبو العلا وعشرات الأحياء في القاهرة، وفي الاسكندرية والسويس والمحلة والإسماعيلية والمنيا وقنا وسائر المدن المصرية. هل هي ثورة إذاً؟ نعم ثورة يا محمود يا ورداني، هكذا كنت أردد لنفسي غير مصدق. لا أريد أن أقوم بالتنظير والتقعير، لكنني ظللت طوالي عمري أحلم بأن أشاهد ما شاهدته الآن: المصريون يقومون بهدم وإسقاط النظام الذي عذبهم وأهانهم وسجن أبناءهم وقام بتجويعهم(...). نحن أمام ثورة ذات خيال مختلف. ثورة يتم الدعوة لها وتنفيذها علناً وعلى رؤوس الأشهاد». الإحساس بالمبادرة الإعلام الثقافي الحكومي (وامتداداته) لا يزال غارقاً في التنافس مع الإسلام السياسي، على أرض الماضي. أثناء جلسة في مقهى زهرة البستان قال الشاعر الصديق: عهد فاروق حسني المديد في وزارة الثقافة كان متخصصاً في منافسة التيارات الدينية على ملكية الدين. لم يكن يحاربها مباشرة انما يوكل الحرب الى مثقفين يدعون الى التنوير، وفي النهاية يسمح النظام ووزارة ثقافته بإطاحة نصر حامد أبو زيد وتشريده قبل أن يموت هماً. وفي محطات زمنية محددة يغسل النظام يديه من محاربة التيار الديني ويترك المثقفين التنويريين في الواجهة. ويستغرب الصديق: كيف يواصل جابر عصفور وأحمد عبدالمعطي حجازي الكتابة ضد التيار الديني؟ أيفعلان ذلك باسم النظام؟ كأن النظام لا يزال قائماًَ، وهو قائم على رغم تبدلات طفيفة في الهيئة. بعيداً من الاتهامات فإن أدوات المثقفين في مواجهة التيار الديني تنتمي الى عصر النهضة (أي أوائل القرن العشرين في أحسن الأحوال) وهي على رغم غنى نصوصها بالإحالات الى مفكرين شرقيين وغربيين، قدماء ومعاصرين، تتميز بتبسيط الصراع الى جهتين متقابلتين. الأمر أكثر تعقيداً، وإلاّ كيف نفسر لقاء الجهتين المتحاربتين، التنويريين وأتباع التيار الديني، في الموقف من قضيتي العراق وفلسطين ومن سياسة الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي في النطقة العربية. لا فرق ملحوظاً. ولكن، لماذا لا يكون هناك فرق؟ ثورة 25 يناير من خارج النظام كله، مؤيديه التقليديين ومعارضيه التقليديين، وهي آتية من مجتمع المعرفة وتحظى بثقة الناس. ثورة لم يتكون مثقفوها بعد وإن كان الشباب المؤهلون كثراً، ثورة خريجي الجامعات الخاصة والحكومية والذين أتيح لهم السفر والاحتكاك بأساليب عيش مختلفة. المثقفون المصريون، إجمالاً، رحبوا بالثورة وإن لم يلتحقوا بها، وما ان انطوت صفحة رأس النظام (الرئيس حسني مبارك وحكومته وحزبه) حتى رأيناهم يكتبون بالأسلوب نفسه وإن تغير الموضوع، بل ان بعضهم امتدح المشير طنطاوي باللغة التي كان يمتدح فيها حسني مبارك. ثورة 25 يناير هي في الأصل مبادرة شبابية، تقوم على المشاركة في تحمل المسؤولية العامة للمجتمع وإدارته، وهي، بهذا المعنى مدرسة في الديموقراطية وتجاوز المعهود في وضع المسؤوليات كلها في يد الحاكم أو نظامه، والاكتفاء بالطاعة والتأييد. إحساس «المبادرة» هذا لم يصل الى الصحافة والإعلام المرئي والمسموع. ويبدو ان الحكومة (الانتقالية) لا تهتم بهذه المسألة الحيوية. هل تنتظر الثقافة المصرية برلماناً ورئيس جمهورية جديدين لتمارس المبادرة إحساساً وانجازاً؟ هل يريد المثقفون أن يبقوا في دائرة الموظف الذي يطيع أمر رئيسه؟ أليس المثقف قبل كل شيء ضميراً يهجس بالشأن الإنساني؟ يخطئ أو يصيب، ولكن يهجس بالشأن الإنساني، ويبادر من أجله.