لا تطمئن أخبار المال والأعمال الواردة من تونس، إلى قرب عودة عجلة الاقتصاد إلى المسار المأمول به بعد ثورة الياسمين. وزير المال التونسي جلول عياد وصف أخيراً الوضع الاقتصادي في بلاده بأنه «حرج»، بسبب الركود الذي تعاني منه القطاعات الحيوية كالسياحة والنقل والتجارة التي تراجع أداؤها بنسب تتفاوت بين 10 في المئة و45 في المئة وفق القطاعات خلال الأشهر الأربعة الماضية. ويظهر هذا الركود في تراجع السياحة والاستثمارات والصادرات والطلب المحلي على السلع والخدمات. وفي ضوء ذلك، تذهب التوقعات إلى أن الاقتصاد التونسي لن يسجل هذه السنة نسبة نمو تزيد على واحد في المئة. ومما يعنيه ذلك، أن شهوراً صعبة تنتظر كثيرين من التونسيين، خصوصاً أولئك الذين يعملون في السياحة والتجارة والصناعة بسبب أخطار فقدانهم لعملهم، كما يعني اتساع دائرة الفقر وتراجع الدخل على عكس الآمال التي علقها التونسيون بعد نجاح ثورتهم الشعبية. ومما لا شك فيه، أن وضعاً كهذا يتسبب أيضاً باستمرار الاحتجاجات الشعبية المطالبة بفرص عمل وتحسين الوضع المعيشي وتسريع عملية الإصلاحات السياسية المطلوبة وتطهير أجهزة الدولة من الفساد والبيروقراطية في إطار تعددية سياسية تضمن الحريات والكرامة، وهو أمر يشهد عليه ما يجري في تونس العاصمة حيث لم تعد الحياة الطبيعية إلى شوارعها وأسواقها حتى الآن بسبب هذه الاحتجاجات. يجعل وضع كهذا إدارة تونس صعبة على الحكومة الانتقالية الحالية بسبب التحدي الأمني الذي يشكل الشغل الشاغل لها، وهو أمر يؤثر في شكل في غاية السلبية، في قدرتها واهتمامها بحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة في ظل أوضاع أمنية محلية وإقليمية غير مستقرة، خصوصاً في ليبيا التي كانت مصدراً أساسياً للدخل السياحي التونسي. أما أخطر التبعات السلبية التي تواجه تونس بسبب عدم استقرار الوضع الأمني وتراجع الأداء الاقتصادي، فتتمثل في توجه مزيد من الكفاءات والنخب التونسيةالشابة إلى الهجرة بحثاً عن الاستقرار والمستوى المعيشي الأفضل. ونظراً إلى مستوى التعليم والتأهيل الجيدين في تونس، سيجد هؤلاء فرصهم في أوروبا بسرعة على ضوء سعي دولها المتزايد إلى استقطاب الكفاءات من مختلف أنحاء العالم بسبب تزايد نسبة المسنين في مجتمعاتها. ولا تكمن المشكلة في أخطار هجرة الكفاءات وحسب، بل أيضاً في عدم عودة قسم كبير من الكفاءات التونسية المهاجرة إلى أوطانها الأم بعد الثورة التي عقدت الكفاءات عليها آمالاً كبيرة. ويلاحظ المتابع للشأن التونسي من خلال الجالية التونسية في ألمانيا وأوروبا تزايد القلق وتراجع زخم الرغبة لدى هذه الكفاءات بالعودة في ضوء تطورات الأسابيع الأخيرة التي شهدت احتجاجات علت فيها أصوات قوى متطرفة وأخرى من بقايا النظام السابق تحاول الالتفاف على أهداف ثورة الياسمين التي قامت من أجل الحرية وضمان العيش الكريم. تتمتع تونس باقتصاد متوازن نسبياً، تلعب فيه القطاعات الإنتاجية كالصناعة والزراعة دوراً مهماً، ويكمل هذا الدور الذي تلعبه الخدمات وفي مقدمها السياحة والتجارة. ولا تعاني تونس من أزمة مال ولا من مديونية خارجية عالية، ولديها احتياطات مالية لا بأس بها. وينبغي لهذا الوضع، إضافة إلى تحويلات المغتربين وأموال مسؤولي النظام السابق الذي وعد الغرب بالمساعدة على إعادتها إلى الحكومة التونسية، أن تشكل أرضية ناجحة لإطلاق برنامج إنعاش اقتصادي عاجل ومبتكر يستوعب غالبية الشباب العاطلين من العمل، خصوصاً أصحاب الكفاءات العالية، فيما يقدَّر عدد الذين يعانون البطالة منهم بنحو 200 ألف شخص. ولا بأس في هذا الإطار من التمويل الجزئي من طريق العجز إذا لزم الأمر، لأن أهم ما تحتاج إليه تونس يتمثل في فتح فرص وآفاق حياة مستقبلية أفضل للشباب وللكفاءات الشابة التي ينبغي أن تشكل القاطرة أو العمود الفقري لعملية تحويل تونس إلى دولة مزدهرة تقوم على دستور وتعددية سياسية عمادها تكافؤ الفرص والمنافسة العادلة. لا بد من تأكيد أهمية فتح هذه الآفاق، لأنها أهم من تكثيف الجهود للحصول على المساعدات الخارجية على رغم أهميتها، وأهم من تحقيق معدلات نمو عالية في ظل غياب آليات تحقق توزيعاً عادلاً لثمار هذا النمو بالشكل الذي يضمن فرص العيش الكريم للشباب الذين قاموا بالثورة من أجل تونس أكثر ديموقراطية وازدهاراً وعدالة. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية