أكدت انتفاضة تونس مجدداً، صحة مقولة إن الاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة. ومما يعنيه ذلك أنه لا يمكن القيام بتنمية ليبيرالية اقتصادية واجتماعية مستدامة من دون ليبيرالية سياسية. اتبعت تونس خلال حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي، نموذجاً منفتحاً للتنمية الاقتصادية يعتمد على السياحة وتدفق الاستثمارات الخارجية. ووصف كثيرون هذا النموذج لفترة من الزمن، بأنه الأنجح عربياً في بلد لا يتمتع بثروات النفط والغاز كما هي عليه الحال في بلدان أخرى مجاورة كالجزائر وليبيا. وحسّن هذا النموذج، مستوى معيشة القسم الأكبر من التونسيين في شكل حسدهم عليه مواطنو دول عربية كثيرة، بمن فيهم مواطنو دول نفطية، كالجزائريين والليبيين، خصوصاً أن صندوق النقد الدولي قدّر عام 2009 معدل نصيب الفرد التونسي من الناتج المحلي الإجمالي بحسب القوة الشرائية، بأكثر من ثمانية آلاف دولار في مقابل أقل من سبعة آلاف في الجزائر وستة آلاف في مصر وخمسة آلاف في سورية و4600 دولار في المغرب. غير أن نموذج النمو التونسي الذي أطلقت عليه أدبيات اقتصادية غربية صفة «المعجزة التونسية»، لم يحدث فقط في شكل غير متكافئ على الصعيدين المناطقي والاجتماعي، بل رافقه فساد ومحسوبيات مفرطة استفادت منها فئة قليلة، في مقدمها عائلة الرئيس السابق نفسه وعائلة زوجته. وجمعت هذه الفئة ثروات فاحشة في شكل غير شرعي على حساب لقمة العيش الضرورية لعشرات آلاف التونسيين. أما على الصعيد الجهوي، فبقيت المناطق الوسطى والداخلية في منأى نسبي عن فرص النمو مقارنة بمناطق الشريط الساحلي ومدنه حيث تركزت المشاريع السياحية والخدمية والاستثمارات الخارجية. وعلى الصعيد الاجتماعي، بقيت فئات واسعة تضم نحو نصف الشعب التونسي، في معاناة متواصلة مع فرص عمل قليلة أو بطالة دائمة. وتضم هذه الفئات خريجي جامعات ومعاهد عالية كان أحد حاملي شهادة منها محمد البوعزيزي الذي أشعل إحراقه لنفسه شرارة الاحتجاجات في ولاية سيدي بو زيد قبل أن تتحول إلى انتفاضة سياسية أطاحت بنظام بن علي بعد 23 سنة من حكم تسلطي أدى إلى تصحر الحياة السياسية والإعلامية من المعارضة وأصحاب الرأي. وبسبب هذا التصحر، تمكن الفساد والمحسوبيات والإثراء غير المشروع من نخر النظام المذكور حتى العظم. وخلال سنوات يمكن تسميتها بسنوات الطفرة الاقتصادية وتدفق السياحة والاستثمارات الخارجية بكثافة، كان بإمكان الفئة الفاسدة المقربة من بن علي التغطية على أعمال الفساد والإثراء في شكل أقل إثارة، لأن جزءاً من ربع النمو الذي زاد معدله على خمسة في المئة والاستثمارات، كان يذهب عمولات إلى جيوبها في الخفاء وعبر مصارف خارجية. غير أن أزمة المال العالمية أدت إلى تراجع السياحة والاستثمارات الخارجية ومعها معدلات النمو الحقيقي إلى ما دون 1.5 في المئة ما أفقد الفاسدين وأعوانهم أحد المصادر المهمة لإثرائهم غير الشرعي. وهذا ما دفعهم إلى التوجه نحو بدائل لهذا المصدر، فلجأوا إلى تعميم الفساد والرشوة في مؤسسات الدولة والإدارات العامة في شكل لم يسلم منه أحد حتى من يريد تسجيل مولوده أو الحصول على رخصة بناء أو توقيع مصدقة أو دفع فاتورة. وبلغ الأمر حدّ بيع الوظائف الحكومية الجديدة بالمزاد العلني في شكل أغلق باب الرزق أمام أصحاب الكفاءات الشابة في ظل عجز القطاع الخاص التونسي عن تأمين وظائف لهم. وأدى هذا الأمر إلى تفشي البطالة في صفوفهم ودفعهم إلى القيام بأعمال موسمية بأجور سيئة وتحت ظروف مهينة. ومع اندلاع شرارة الاحتجاجات في سيدي بو زيد، لم يتمكن نموذج التنمية التونسي من الصمود بسبب ضعف دعامتيه الأساسيتين أي السياحة والاستثمارات الخارجية من جهة، وتكملة الفساد والمحسوبيات على ما تبقى من مكاسب هذا النموذج في ظل أزمة المال العالمية التي أدت إلى تراجع أداء الاقتصاد التونسي إلى أكثر من الثلث بالأسعار الثابتة خلال العامين الماضيين. ولولا غياب التعددية السياسية والمؤسسات القضائية والدستورية المستقلة والحريات الأساسية للفرد والمؤسسات، لما تمكن الفاسدون وأعوانهم من الإجهاز على مكتسبات هذه النموذج بهذا الشكل لأن التعددية والحريات كانت ستكشف أعمالهم قبل محاسبتهم وجعلهم عبرة لمن يعتبر. تذكّر تجربة تونس هذه الأيام بتجارب دول عربية شهدت خلال السنوات الماضية معدلات نمو جيدة، غير أن الغالبية الساحقة من شعوبها لم تقطف ثمار ذلك حتى الساعة. وبدلاً من أن يجري حكامها وحكوماتها إعادة نظر في توزيع الثروات لمصلحة هذه الفئات، يرفعون الأسعار ويستمرون في منع التعددية السياسية والحريات وترك الفاسدين يتعاملون مع مؤسسات البلد وكأنها ملك شخصي لهم. وهذا أمر ينطوي على أخطار انطلاق شرارات احتجاج جديدة يمتد لهيبها إلى أبعد من تونس وفي اتجاهات كثيرة. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية