عند إعلان تحرير معظم إقليم كردستان العراق، توقع كثيرون وفي مقدمهم الذين تركوا الإقليم، أنها اشهر عدة وستغرق كردستان في بحر من الدماء والدموع والفقر إلى درجة أنها ستتوسل العودة إلى أحضان الديكتاتورية مرة أخرى، بينما توقع أكثر المتفائلين بنجاح الثوار أن الكرد لن ينجحوا بإدارة أنفسهم وأنها أيضاً بضعة أشهر لا غير ستتحول كردستان بعدها إلى جزيرة للإرهاب والخراب؟ ولكن بعد خروج كل ما يتعلق بالنظام في بغداد من المناطق المحررة بما فيها كل وسائل الإدارة ومفاتيح العمل والكثير من السجلات والوثائق، استطاع الكرد وشركاؤهم في المنطقة من المكونات الأخرى ليس الغرق في بحر من الدماء والفوضى بل اختيار طريق آخر للصراع حينما أعلن الرئيس مسعود بارزاني أن انتخابات عامة هي التي تقرر من يحكم المنطقة المحررة من كردستان. وكان بحق أول خطاب يؤشر إلى ملامح المرحلة المقبلة في المنطقة ويعطي أولى ثمار العمل النضالي من اجل تحقيق الديموقراطية. لذلك يعتقد كثيرون من المراقبين أن أول عملية اختراق لحاجز الخوف والرعب من الأنظمة الديكتاتورية هنا في المحيط العربي حصل هنا في إقليم كردستان وفي وسط العراق وجنوبه في ربيع 1991، حينما انتفض الشعب وواجه سلطات الديكتاتور المتمثلة بأجهزة الأمن والمخابرات وميليشيا حزب البعث وقطعات الحرس الجمهوري والحرس الخاص، واستطاع تحرير كل المقرات والمواقع التي كانوا يحتمون فيها خلال أيام، وفيما نجح الكردستانيون في إنجاز مشروعهم الديموقراطي وإقامة كيانهم الفيديرالي، نجح النظام في سحق المنتفضين في وسط البلاد وجنوبها. لقد نشأ نظام في الأقاليم بعد تحرير المنطقة، وقرار الشعب وفعالياته الأساسية في الخيار الديموقراطي وصناديق الاقتراع التي اعتمدت في تداول السلطة، وهي التي حسمت الصراع بين القوى والأحزاب السياسية في انتخابات 1992، التي فاز فيها الحزب الديموقراطي الكردستاني بغالبية قليلة (51 في المئة )، بينما جاء الاتحاد الوطني في الدرجة الثانية ( 49 في المئة )، واصطفت معظم الأحزاب الوطنية الأخرى مع الحزبين الفائزين وحسب أحجامها في أول برلمان كردستاني منتخب بشكل حر ومباشر وبأشراف مراقبين دوليين ووسائل إعلام عالمية وممثلين للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ومنظمات الأممالمتحدة، التي شهدت بأن الانتخابات تمت ضمن المعايير الدولية. لقد كان الخيار منذ البداية قبول الآخر والتعاطي معه والعمل المشترك من اجل إنجاز المشروع الديموقراطي الحر للإقليم الذي واجه تحديات كبيرة، غير ما كان متوقعاً من كون المجتمع الكردستاني مجتمع قبلي قروي ومحافظ، يعاني أمية عالية وتخلفاً كبيراً، فجاءت التحديات الخارجية التي استغلت كثيراً من المظاهر والحلقات الرخوة في البناء الاجتماعي أو في الهيكل السياسي الجديد، واللعب بمفاتيح الصراعات القديمة كي تشعل حرباً كادت أن تدمر تلك التجربة، لولا إصرار المخلصين من أبناء الشعب وقياداته وفعالياته والقوى الصديقة لكردستان، ما أدى إلى إرساء السلام وتوحيد الإدارتين والعمل المشترك، والدخول في حقبة جديدة بعد سقوط نظام صدام حسين والمشاركة مع القوى العراقية الأخرى، لتأسيس النظام الديموقراطي الجديد في البلاد والعمل من اجل بناء الإقليم وتطوير بنيته التحتية وحل مشكلة المناطق الأخرى منه التي ما زالت تعاني من ازدواجية العلاقة بين الحكومة الاتحادية وإدارة الإقليم في كل من محافظات نينوى وكركوك وديالى وصلاح الدين. إن ما يجرى اليوم من حراك سياسي وعملية إصلاح شاملة يؤشران إلى إصرار الإقليم وقياداته السياسية والاجتماعية على صيانة النظام السياسي الديموقراطي وتطويره، كما يدل على النهج الحضاري الذي يصر الجميع على انتهاجه رغم بعض التحديات التي تواجهه على نمط بعض أعمال العنف التي رافقت التظاهرات منذ شباط (فبراير) الماضي، والتي انتهت حينما أدركت تلك القوى إن النظام السياسي في كردستان إنما أنتجته عملية ديموقراطية نزيهة جاءت بكل هذه المؤسسات التي تدير الإقليم الآن، وتعمل على تميزه وتقدمه وفي مقدمها مكافحة الفساد والإفساد ومحاربة أي محاولة للخروج على الشرعية باستخدام العنف والتخريب.