في داخل القصر، في رواية «ترمي بشرر» لعبده خال، تتحدد مواقع الناس، وتفرزهم جدرانه فرزاً بيناً، فكل يتحرك بحسب مهمته الموكلة إليه.. وتظل عين السارد تحدق وتلتقط جميع التفاصيل، فالخدم الذين ملأهم سيد القصر بالعاهات وأحالهم إلى كائنات مشوهة «يتحركون كما لو كانوا نملاً يؤدون واجباتهم بمثابرة مضاعفة، يعلقون ابتساماتهم، ولا يلتفتون للخلف، ولا يحدقون في الوجوه، ولا يحتاج المرء لمعرفة وضع أي منهم، إذ تكفلت بزاتهم بتحديد مواقعهم داخل القصر».. بينما يتحرك ضيوف السيد وندمائه برغباتهم الفائرة، وشهواتهم المستعرة لتسليته وتوفير فضاء المتعة له، وذلك بحسب القانون الخاص للقصر، والذي لا ينطبق على سواه من الفضاءات، بل إنه يعد خارجه من المحرمات والمحظورات التي يجرم بها الأفراد ويحاسب عليها القانون: «المشاهد تشي أنك خارج الحدود فنساء تخليّن عن عبيّهن، وحشمتهن، وأظهرّن مفاتن عاجية، لم تكن لتبين بهذا الابتذال في مكان آخر». حتى الأماكن تختار مواضعها وتتكيف مع أقدراها، ففي حين يبدو القصر شامخاً مرتفعاً بأسواره وجدرانه كسيد مهيب يطل على الناس من علياء، يبدو الحي كعبد حقير ارتضى أن يطأطئ ويتخذ وضع الركوع الأزلي لسيده، «بيوت تبدو من داخل القصر كما لو كانت قامات انحنت في حالة ركوع دائم، لم يؤذن لها برفع هاماتها». هكذا يسهم القصر كفضاء للسلطة في تحقيق غاياتها، وفي بسط مظاهر الرهبة، إذ يعمل في النص كرافعة مادية للمكانة التي يحتلها السيد والتي تميزه عن غيره من البشر، وتخوله أن يسخرهم في خدمته وتشييد مبانيه وتوفير كل أنواع اللهو والمتع وحتى الشذوذ. أما السيد، فهو عنصر يشغل المؤلف في هذه الرواية وسواها.. وإذا كان عبده خال قد نهج في عمله الروائي الأول: الموت يمر من هنا، نهج الترميز واستخدام الأيقونات والأنماط خصوصاً في بناء شخصية (السوادي)، (شخصية الطاغية في تلك الرواية)، فإنه في (ترمي بشرر)، وأثناء نسجه لبنية العبودية الطوعية، قد أوشك على أن يسمي الأشياء والشخوص بأسمائها.. وأن يمنحها سمات تجعلها أكثر قابلية للإقناع كشخصيات نامية فاعلة ومنفعلة، خصوصاً وهو يحاول ربطها بأماكن وأحداث وصور معيشة ومتداولة ومألوفة. لكن، وبسبب هذا الميل للتنميط لدى الكاتب، فإن شخصية السيد/ الطاغية تخسر كثيراً من حيويتها وفاعليتها حتى رغم التعويل والبناء على أحداث واقعية ليست بعيدة عن ذاكرة المتلقي (مثل كوارث الأسواق المالية) على سبيل المثال. تقدم شخصية السيد في (ترمي بشرر) من خلال رؤية السارد (طارق)، وبؤرة هذه الرؤية تتوجه من الأدنى للأعلى.. فيما تنهض بين هاتين الشخصيتين حواجز وجدر نفسية ومادية وطبقية لا مدى لها، ويكاد ينحبس السارد في رؤيته الخارجية القصية للسيد، حتى تتسطح هذه الشخصية وتغدو أشبه بتمثال رمزي يستخدمه السارد لتوجيه المتلقي نحو الصورة الأسطورية التي طالما شاعت في التراجيديا المعروفة في الآداب الكلاسيكية، وإن كانت نمطاً يعضده الواقع.. وحتى بعد أن دخل طارق القصر، وبدأ يتعاطى تفاصيل اليومي والمعيش مع السيد، ظل السارد يرى هذه الشخصية من خلف الحواجز الكثيفة، ولم تختلف صورته داخل القصر عن تلك التي كان الصبية وأهل الحي يخرجون ويتدافعون يومياً لرؤيتها من خلف زجاج السيارة البيضاء الفارهة عندما تعبر المسافة المشتركة بين الحي والقصر، «نلمحه يجلس في المقعد الخلفي مسترخياً بملامح حادة حلوة التقاسيم».. فيما كانوا على استعداد لدفع أي ثمن لرؤية ملامحه أقرب وأوضح، حتى دفع ذلك الشغف بأحدهم لأن يوقع (جمال المجنون) في طريق السيارة ليرتطم بها ويسقط معفراً بدمائه، فيجبر السائق على التوقف.. ولتتوقف معه معاناة الناس من خروجهم اليومي.. ينقل السارد تفاصيل ذلك المشهد: «ظل السيد داخل المركبة متململاً مبقياً على وضعية جلوسه، الشيء الذي تغير فيه جريان تأففه ليعكر تقاسيم وجهه مع محافظة ملامحه على حدتها وصرامتها، وهو يتطلع صوبنا، وكأنا كائنات متطفلة بزغت من الأرض السفلى لإثارة تأففه بأفعال صبيانية، كان لون بشرته المبيض المشع مبهراً لنا وخالقاً دهشة أن يكون هناك شخص على هذه المعمورة يمتلك نقاء بشرته ولمعانها». ظلّ السيد يمثل تصور السلطة العليا والمهيمنة، كما تتشكل في المخيال الشعبي الجماعي، وحتى الفردي للمؤلف السارد على حد سواء.. الطاغية الذي لا يتورع عن استعباد الآخرين وتسخيرهم واستغلالهم وتسيير مصائرهم.. والذي لا يعجزه وضع القوانين والحدود حتى لحياة الآخرين بمن فيهم أولئك الذين كانوا ذات يوم أدواته للقمع والتسلط، كما انتهى إليه مصير (عيسى الرديني) في الرواية.. والذي يربطه السارد بأحداث واقعية طازجة في ذاكرة المتلقي مثل كارثة انهيار أسواق الأموال/ الأسهم المحلية، مقدماً لها تفسيراً سردياً يزيد المتلقي قناعة بأن ثمة نماذج من البشر لا تتورع عن تدمير شعب بأكمله لأجل نزوة عابرة، أو رغبة في «تأديب» شخص واحد بتجريده من أملاكه وأمواله لئلا «يضع رأسه برأس أسياده، ويظن أنه قد أصبح واحداً منهم»، فعندما استجاب عيسى لمشاعره، وأقدم على الاقتران بأخت السيد بعد علاقة حب جمعتهما، لم يتوان السيد لحظة عن تدميره وإنهاء حياته بلا رحمة أو حتى تفكير.وبذلك كان السيد يعيد توليد وإنتاج الخوف والرهبة في نفوس الجميع، بمن فيهم ندماؤه وخاصته، ممن قد يحيدون عن مبتغاه أو هواه، ولم تكن علاقته بمن حوله تحيد عن دائرة الآمر والمأمور، ولعل مشهد اللقاء الأول بين السيد وطارق يحوي الكثير من الدلالات التي تسهم في بناء تلك الشخصية، «دفعني لمجلس السيد الذي استقبلني متفحصاً جسدي، وهيئتي، طالباً مني السير أمامه، والاستدارة، والتثني بزوايا مختلفة، عرفت من عيسى أن حياتك بين ساقيك». وأمرني بالاقتراب منه، والوقوف في مواجهته تماماً، وأخذ يدنيني بأوامر متلاحقة (أقرب أكثر)، ولم يعد بيني وبينه سوى أقل من متر واحد، ليصدمني بطلبه.. اخلع سروالك!» وبعد حفلة من الطلبات الوقحة المستفزة، والتعليقات المكشوفة البذيئة، والكشف والتدقيق والفحص والتقليب اليدوي من قبل السيد لأعضاء السارد، يقرر أنه (يصلح) للمهمة التي استدعي لأجلها.. ومنذ تلك اللحظة يدخل (طارق) زمن العبودية الطوعية اللامنتهية. * ناقدة سعودية