قبل «ابن الرمل» و«الليلة المقدسة»، روايتي الطاهر بن جلون الكبيرتين، اللتين أصدرهما الكاتب المغربي باللغة الفرنسية خلال ثمانينيات القرن العشرين، كان هذا الكاتب معروفاً، طبعاً، كأديب وباحث في علم النفس ومناضل دفاعاً عن العمال المهاجرين إلى فرنسا، لكنه بعد تينك الروايتين، بلغ من الشهرة مبلغاً استثنائياً، ولا سيما حين نالت روايته الثانية جائزة الغونكور، وهي أرفع جائزة أدبية فرنسية تُمنح سنوياً. ومنذ ذلك الحين، صار بن جلون علامةً من علامات الأدب الفرنسي، بل العالمي. وإذا كنا ذكرنا هنا اسمي هاتين الروايتين، فإنما هذا لأنهما متكاملتان الى حد كبير، يكاد موضوع كلُّ واحدة منهما يكون استكمالاً للآخر، ففي الصفحات الأولى من «ابن الرمل» (1985)، تركَنا الطاهر بن جلون في حيرة من أمرنا، مثلنا في هذا مثل روايته «أحد شيوخ الحكي في ساحة الفنا في مراكش»، وحيرتنا نبعت من جهلنا للشخصية الحقيقية لبطل حكايته «أحمد»... فنحن نقف ما ان ينتهي الراوي من سطور حكايته الأخيرة وقد بدأ يخامرنا شك في أن «أحمد» يمكن ألاّ يكون فتى... بل ولو أنعمنا النظر في بعض السطور السابقة لالتقطنا العلامة، حيث تقول السمراء الآتية من الإسكندرية للراوية وهي تعطيه المخطوط: «لقد أصغيت اليهم جميعاً – أي رواة الساحة – ورأيت انك وحدك ستكون قادراً على رواية حكاية خالي الذي كان في الحقيقة خالتي (زهرة)! إنني بحاجة للخلاص من عبء هذا اللغز. وإنه لسر ألقى بثقله طويلاً على عائلتنا. لقد كشفت الهوية الحقيقية لخالي يوم موته. ومذاك ونحن نعيش في كابوس...». إذن، ما تحاول تلك المرأة الغامضة قوله، من شأنه أن يغير مجرى الأحداث التي تروى. لكن ابن جلون، يومها، أوقف روايته عند ذلك الحد تاركاً راويته الشيخ يقول إن المرأة قبل أن تتركه سلمته «كراساً كبيراً في أكثر من مئتي ورقة دونت عليها يوميات باي أحمد وأفكاره»، ويقول الراوي: «قرأت الكرّاس وأعدت قراءته. وكنت في كل مرة أشعر بانقلاب في داخلي من دون أن أدري ما الذي عليّ أن أفعله بهذه الحكاية. عند ذلك رحت أرويها، وكلما كنت أوغل في روايتها، كانت تغرقني في البئر». في «ليلة القدر» (1987) نتابع حكاية زهرة مروية على لسانها... وحكاية زهرة الضائعة من منظور صاحبتها، ووسط ركام من «المونولوغات» العابقة بكلام الشعر، الضائعة بين الحلم والحقيقة والكابوس والتمني، تبدو هنا أشبه بعمل «بيكاري» عبره يستعيد ابن جلون أسلوب الأدب «البيكاريسك» الذي كان رواة العصور الوسطى قد استعاروه من فنون المقامة. غير أن «بيكارية» الرواية لا تمنع كاتبها من صياغة معظم فصولها بما يكاد يشابه تيار الوعي – ولسوف نرى لاحقاً انه يفرط أحياناً في هذا الى حدود تقريرية تجعل بطلته تبدو وكأن همها وضع ذاتها على مشرحة التحليل النفسي كما تمارسه بنفسها! -. ولعل ابن جلون اختار هذا الاسلوب «البيكاري» لأن عمله يسير باتجاه رسم رحلة عرفانية، فبطلته تمارس هنا، بعد أن اعتقها والدها من سرّها وسمح لها بممارسة حياتها في ما تبقى لها من عمر، كفتاة وليس كفتى، تمارس مسيرة ولادتها الجديدة. وكلمة ولادة جديدة هنا تفرض نفسها من خلال حقيقة ان زهرة، مع اعترافات والدها لها ليلة القدر، وبعد موته، وبعد ان انعتقت من السر الذي كان يكبلها، انما ودّعت حياتها القديمة كلها: تركت ماضيها واخواتها وبيتها... تركت كل شيء وأرغمت نفسها على نسيان كل شيء وانطلقت في رحلة حياة جديدة. وهذه الحياة كان لا بد لها من مطهر أول تمثل على شكل فارس تروي لنا زهرة انه حملها وطار بها نحو روض عاطر، أي مملكة لا يعيش فيها سوى الأطفال وقد تسلحوا ببراءتهم وحدها. في ذلك الروض العاطر، الذي انتقلت اليه زهرة تواً من المقبرة حيث كانت تدفن أباها، صارت بطلتنا «قمر الأقمار» و «أميرة الجنوب». لكن مقامها في الروض العاطر لم يدم، إذ سرعان ما نراها وقد عادت الى المقبرة حاملة ذكرياتها وذكريات أمها وأبيها مرة أخرى. وانطلاقاً من المقبرة هذه المرة، تصبح زهرة وحيدة، عارية من ماضيها مغسولة بماء البراءة... وهو غسيل لم يحرمها منه حتى ذلك المجهول الذي لا ملامح له، والذي يغتصبها في الغابة «هكذا كان رجلي الأول عديم الوجه، لم أكن لأحتمل أن يطرح علي أسئلة، ولو لم يختف بالليل لكنت فررت». بهذا الهدوء وهذا الاستسلام لواقعها الجديد، تحدثنا زهرة عن تحولها الى امرأة. وهذا التحول، بعيداً عن أن يطبع حياتها بطابع «بسيكوباتي» مرضي، نراه يحررها أكثر وأكثر لتضحي حرة في جسدها، سيما وأن جهلها لوجه واسم وهوية مغتصبها، يجعل له بُعد الرمز، لأنه أتى كخطوة أخيرة أمام انعتاقها. من الغابة التي اغتصبت فيها ستنتقل زهرة الى مدينة لا تعرفها، وستصل في المدينة الى حمام عام تدخله لتغتسل ثم تخرج منه الى بيت «الجلاّسة» المشرفة على الحمام، ونجد ان هذه تعيش مع أخيها الضرير ولقبه «القنصل». وزهرة ستعيش مع هذا الثنائي الغريب، تلك الأيام التي ربما ستعتبرها، رغم كل شيء، أسعد ما مر عليها في حياتها. فمع القنصل سوف تعيش حكاية غرامها الأول والأخير، ومع اخته ستعيش علاقة مبهمة تتبادلان فيها الادوار «سيد/ عبد» على التوالي... غير أن الاقامة هنا ستنتهي بنوبة غيرة تصيب «الجلاسة» فتروح ساعية للتنقيب في ماضي زهرة، وينتهي بها الأمر الى إحضار عم زهرة الذي كان والد هذه الأخيرة قد حذّرها منه... وإذ تجد زهرة نفسها في مواجهة عمها تطلق الرصاص عليه وترديه قتيلاً، فتنتقل الى السجن. وفي السجن تعيش بطلتنا فصلاً جديداً من فصول تحررها، ينتهي بتحولها الى ولية تبارك النساء الأخريات... ثم حين يطلق سراحها في نهاية الأمر، يصبح لها مزار عند البحر. وفي مشهد أخير يقف بين الحلم والواقع، تلتقي زهرة أخيراً بالقنصل الذي نراه وقد صار ولياً بدوره... وحين يجدها في مواجهته ينحني عليها ويقول: «ها أنت أخيراً»... وهي آخر ثلاث كلمات في الرواية. في «الليلة المقدسة» أو «ليلة القدر»، تمكَّن الطاهر بن جلون من تقديم توليفة أدبية تمزج مزجاً سعيداً بين العديد من العناصر التراثية والحديثة، الشفهية والسينمائية لكنه في المقام الأول قدم لنا صرخة أنثوية مفزعة في حين، ورزينة وهادئة في حين آخر. ومن دون وعظ أو رغبة في جعل روايته تبدو كأنها امثولة أخلاقية أو اجتماعية أو حتى سياسية (رغم مشهد «المنسيين» الذي لم يأت – على جماله التشكيلي – متلائماً مع روح الرواية، ولا منخرطاً بشكل طبيعي في سياقها)، قدم الطاهر بن جلون هنا رواية عن انعتاق المرأة... وفي هذا السياق علينا ألا ننسى بأن روايات هذا الكاتب قد طبعت دائماً بحضور المرأة... صحيح ان ابن جلون لم يصر بعد «كاتب المرأة العربية» الأول، والمدافع عن وجودها وتحررها – ولو فعل هذا لجازف بأن يجعل من روايته مجرد اطروحة فكرية لا أكثر -، لكنه قدم في هذه الرواية صرخة امرأة، ورافق مسيرة تحررها. لكنه، ولئن بدا خبيثاً بعض الشيء ازاء الرجال (بدءاً من الأب الذي انتظر عشرين عاماً قبل ان يعتق ابنته من سرها الكئيب، وصولاً الى القنصل الذي رغم حسناته كلها، انرسمت علاقته بزهرة انطلاقاً من تبعية هذه له، ولنزواته ومن استعدادها لكي تحل لديه محل اخته، مروراً بالعم الذي تقتله زهرة حين يأتيها مهدداً منتقماً، وبالمجهول الذي يغتصبها في الغابة)، أقول لئن بدا بن جلون خبيثاً ازاء رجال روايته، فإنه لم ينس ان يجعل كل واحد منهم، على التوالي، سبباً في ولوج زهرة للمرحلة التالية من حياتها، أي سبباً في خطوتها التحررية التالية: من الأب الذي حررها من «ذكورتها» المزيفة، الى شيخ الروض المعطار الذي حملها الى حيث اغتسلت بماء البراءة، الى المجهول الذي حقق لها انوثتها عبر اغتصابها في الغابة، الى القنصل الذي تمت على يديه عملية تأنيثها بالمطلق، الى العم الذي اوصلها قتلها له الى السجن.. ومن هناك الى حريتها المطلقة. وابن جلون لم ينس كذلك ان النساء مسؤولات عن تعاسة زهرة بقدر مسؤولية الرجال وربما أكثر: بدءاً من الاخوات، وصولاً الى الجلاسة مروراً بالأم، التي كانت سلبيتها ربما السببَ الأساس في كل ما أصاب زهرة. إن قراءة «الليلة المقدسة» تشكل متعة حقيقية للقارئ، متعة تنبع من سياق الاحداث والتغيرات، لكنها تنبع خاصة من كتابة الطاهر بن جلون التي يبدو فيها النثر وكأنه الشعر بصوره الجميلة ومقدرته الكبيرة على التنقل بين المواقف والاحداث، وعلى المزج السعيد بين الحلم والواقع، مزجاً يضاهي في بعض لحظات ذروته مزج بورخيس أو كارين بلكسن بين عنصري الكلام الأدبي هذين. ان هذا لن يمنعنا من ابداء ملاحظة أخيرة فحواها ان «الليلة المقدسة» ليست، بأي حال من الأحوال، أجمل ما كتبه الطاهر بن جلون. ونيل كاتبنا العربي – المغربي لجائزة «الغونكور» عن هذه الرواية ليس من شأنه ان يبدل من حكمنا هذا عليها، فبالمقارنة مع «ابن الرمل» أو «محا العاقل، محا المجنون» وخاصة مع «هرودة»... من المؤكد ان المقارنة لن تكون بأي حال في صالح «الليلة المقدسة». وهذا الواقع لا ينبع لا من موضوع الرواية ولا من لغتها ولا حتى من رسم شخصياتها، فالكاتب وفق كثيراً في كل هذا. ينبع هذا الواقع من بعض انزعاج يصيب القارئ إذ يحس وكأن الكاتب قد اشتغل على روايته أقل مما ينبغي، وانه كان متلهفاً على إنهائها أكثر مما يحق له أن يتلهف. [email protected]