لم ترتسم المعالمُ الرئيسيةُ لمواقع الأمثالِ القرآنية على نحو متكاملٍ في مجمل التراث الاجتهادي الموروث بشأن هذه الأمثال، سواء في كتب التفسير أو في الكتب التي أفردَها مؤلفوها للأمثال القرآنية، أو في مصادر البلاغة والأدب العربيين. وظلت جلُّ الاجتهادات في هذا الموضوع، على كثرتها وتتابعها عبر الزمن، تتسمُ- في أغلبها- بالجزئية والتشتت، كما هي الحال في مؤلفاتِ قدماء العلماء. ولا يزال يغلب عليها التقليدُ والاجترار في معظم مؤلفات المحدثين من المختصين في الدراساتِ القرآنية. توجد بعضُ الاستثناءات من هذا الاستنتاج العام، ولكن ثمةَ سِمَتَيْن لا تخطئهما عينٌ على مجمل ذلك التراث: الأولى: هي هيمنة مقصدية البلاغة الإعجازية للأمثال القرآنية، من دون التطرق إلى «البلاغة الحجاجية»، على نحو ما انتهينا إليه في مقالة سابقة (الحياة 16/12/2017). والثانية: هي الغياب التام للتناول النسقي أو المنظومي للأمثال القرآنية في أغلب قديم هذا التراث وجديده. لقد انتهى أربابُ البلاغة وعلماء اللغة إلى أن أصول محاسن الكلام تجتمع في أربعة: «التشبيه والتمثيل والاستعارة، والمجاز»، على ما ذهب إليه الجرجاني في كتابه الفذ: «أسرار البلاغة». وهم يفرقون بين الاستعارةِ والمجاز؛ فهو أعمُّ منها. ويفرقون بين التشبيه والاستعارة، فهو مغزاها وجوهرها، وإن كان مقصدُها هو التشبيه على وجه المبالغة والاختصار والإيجاز. وبينما ينقل المستعيرُ اللفظ عن أصله في اللغة، فإن ضارب المثل لا يفعل ذلك ولا يقصدُه، ولكنه يقصدُ إلى تقرير الشبه بين الشيئين. وأياً كان نمطُ المثل القرآني؛ فإن «الأمثال كلها من قبيل التمثيل، والتمثيل من باب الاستعارة»، كما قال عبدالقاهر الجرجاني. ذلك؛ لأنَّ «الاستعارةَ ذات شعبتين، إحداهما أن تكون في تشبيه شيء بشيء من غير أداة، كتشبيه الرجل بالأسد، وتشبيه حال بحال، وهو التمثيلُ، وهاتان الشعبتان تجريان في التشبيه الذي يكون بأداة التشبيه، كما تكونان في الاستعارة؛ إذ إنهما متلاقيان في المعنى، والاختلاف في طريق الأداء». وسنرسم في ما يلي المعالم العامة لمواقع الأمثال في القرآن بمختلف صيغ ورودها. الموقع الأول: التشبيهُ بضربِ المثال: إن مادة «مثل» وتصاريفها اللغوية تشكلُ المعاني الأساسية في مواقعها، وترسم ملامحها العامة في سياقاتها القرآنية. وقد وردت مادةُ «مثل» وتصاريفها في القرآن الكريم (181) مرة، باثنين وعشرين اشتقاقاً. منها (86) مرة بمعنى: شبه، أو نظير، أو وصف، أو علة، أو شرح، مع ملاحظة تكرار لفظ مثل بإضافة كاف التشبيه (كمثل) في بعض المواضع بهذا المعنى المذكور. و(88) مرة بمعنى مساوٍ تمام المساواة. ومرتان بمعنى الأمثل أو الأفضل، ومرة بمعنى العقوبات الفاضحة، ومرتان بمعنى «شَخُصَ» أو تَجسَّد. الموقع الثاني: التشبيه بكاف التشبيه: وفي هذا الموضع تشكل «كاف التشبيه» باستعمالاتها المتعددة معاني الأمثال الواردة بصيغتها وترسم ملامحها العامة. وقد ورد التشبيه أو التمثيل بكاف التشبيه في القرآن الكريم بطريقتين: الأولى بالدخولِ على حرف «إن» بغرض التمثيل والتوكيد، وقد وردت 38 مرة، وهي تفيد التشبيه: «كأن» 10 مرات. «كأنهم» 11 مرةً. «كأنه» 5 مرات. «فكأنما» 3 مرات. «كأنها» 3 مرات. «كأنما» 3 مرات. «كأنهن» مرتان. «كأنك» مرة واحدة. والثانية بالدخول على الاسمِ بغرض التشبيه، وقد دخلت في القرآن على الاسم بغرض التشبيه 223 مرة: منها 86 مرة دخلت فيها الكاف على اسم الإشارة «ذلك»، ومرة واحدة على اسم الإشارة «ذلكم»، و9 مرات على الاسم الموصول «الذين» بصيغة الجمع، و5 مرات على الاسم الموصول «الذي» بصيغة المفرد. ومنها: 59 مرة دخلت فيها على «ما» بمعنى الذي، و9 مرات على «مَن» بمعنى الذي أيضاً. ودخلت على لفظِ «مثل» 13 مرة، وعلى «أمثال» مرةً واحدة، وعلى لفظ «دأب» ثلاث مرات. ودخلت الكاف مرتين على أسماء: شجرة، وهيئة، والأعلام، والأنعام. ومرة واحدة على كلمات: عرض. عذاب. الظلل. خيفتكم. الحجارة. الجواب. المفسدين. الفجار. غلي. جهر. الرميم. هشيم. لمح. الفخار. الدهان. زرع. الصريم. المجرمين. صاحب. القصر. الفراش. العهن. عصف. مشكاة. الطود. طي. صيب. ذكركم. الموقع الثالث: التمثيلُ والتشبيهُ بهمزة الاستفهام. وفي هذا الموضع تشكلُ همزة الاستفهامِ المعالم الرئيسية لهذا النوع من التمثيل. والتشبيه بالاستفهام عموماً هو أوسع مواقع الأمثال في القرآن الكريم بحسب ما تبين لي من استقصاء أسلوب الاستفهام فيه. فقد ورد الاستفهامُ في الكتاب العزيز في 1260 موضعاً من آياته البالغ عددها 6236 آية؛ أي أنَّ أسلوبَ الاستفهام وحده يمثل ما يقرب من خُمْسِ الآيات الكريمة. وهذه الكثرةُ في استعمال الاستفهام قد تدل على قوته في البيان بشكل عام. وقد استعملت همزة الاستفهام وحدها في 560 موضعاً؛ أي ما يساوي نصف المقدار الذي جاء عليه الاستفهام بأدواته كلها في القرآن، وليست كلُّها مواقعَ تمثيل وتشبيه. ويُعرف الاستفهامُ بأنه طلب العلم بشيء لم يكن معلوماً من قبل بأداة خاصة من أدوات الاستفهام. ولكن بعض النحاة ذهبَ إلى أن الاستفهام بالهمزة يكون بقصد التسويةِ بين شيئين أو بين حالين؛ وهذا الرأيُ يكشف عن كثيرٍ من الأمثال الشارحة التي وردت في القرآن بأسلوب الاستفهام بالهمزة. والشواهد على ذلك كثيرة في آيات القرآن الكريم، منها قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ۚ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾. الزمر:21. ويدل سياق سورة الزمر على أن الاستفهام بالهمزة والنفي (ألم) يفيد المقايسة أو المشابهة بين إنزال الماء من السماء، وإنزال الكتاب؛ وبين ما ينتج من إنزالِ الماء من آثار في الأرض؛ من إنباتِ مختلَف أنواع الزروع، ثم نموها واصفرارها، ثم صيرورتها حطاماً، وما ينتج من إنزال الكتاب بالنسبة للذين يخشونَ ربهم فتلين قلوبهم لذكر الله، وبالنسبة للذين أضلهم الله فليس لهم من هاد. ومقصد التسوية بالهمزة الاستفهامية واضح في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ۚ بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. (الأحقاف:33). والتمثيل بالغ الوضوح باستفهام الهمزة في قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ (الحجرات:12). ونظراً لاتساع نطاقِ أسلوب الاستفهام في القرآن وتنوعِ مقاصده من جهة، ولأن الهمزةَ هي أُمُّ باب الاستفهام- كما قال سيبويه- ولأسبابٍ أخرى متنوعة من جهة أخرى؛ فقد اقتصرنا على «الاستفهام بالهمزة» وحدها في هذه المرحلة من أجل في رسم معالم مواقع التشبيه أو التمثيل أو البيان بالاستفهام. وردت حالات الاستفهام بالهمزة على النحو التالي: «أَمْ» 133 مرة، و «أفلا» 45 مرة، و «ألم» 40 مرة، و «أولم» 35 مرة، و «فبأي» 35 مرة، و «ألم تر» 31 مرة، و «أفمن» 17 مرة، و «أرأيتم» 14 مرة، و «أليس» 13 مرة، و «أإذا» 12 مرة، و «أفلم» 12 مرة، و «أفرأيتم» 7 مرات، و «أأنتم» 7 مرات، و «أولو» 7 مرات. الموقع الرابع: التمثيل والتشبيه من خلال القصص القرآني، ومن دون أداة تشبيه. وقد صَنَّفَ ابن تيمية القصص القرآني في باب «الأمثال» (الفتاوى ج/14)، إلى جانب الآيات التي تضمنت قياساً تمثيلياً من دون أداة تشبيه. واعتبر أن «القصص» نظير ما يرد في القرآن من ذكر الأصل المعتبر به ليستفاد حكم الفرع منه من غير تصريح بذكر الفرع، كقوله تعالى: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ۗ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ (البقرة:266). قال رحمه الله: «ونظير ذلك ذكر القصص، فإنها كلها أمثال؛ هي أصول قياس واعتبار، ولا يمكن هناك تعديد ما يعتبر بها، لأن كل إنسان له في حالة منها نصيب، فيقال فيها: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (يوسف:111)، قال ابن تيمية: «والاعتبار هو القياس بعينه، كما قال ابن عباس لَمَّا سئل عن دية الأصابع فقال: هي سواء، واعتبروا ذلك بالأسنان، أي: قيسوها بها، فإن الأسنان مستوية الدية مع اختلاف المنافع، فكذلك الأصابع، ويقال: اعتبرتُ الدراهمَ بالصَّنْجَةِ إذا قدرتها بها». ومن صور التشبيه من دون أداة تشبيه قوله تعالى: ﴿ولَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ (الإسراء:29). وغاية ما توصلنا إليه حتى الآن هو: أن القصص القرآني منه ما هو قصص الأنبياء والأمم السابقة، ومنه ما هو قصص حوادث وشخصيات غابرة وفئات معينة من الناس سبقت بعثة الرسول بآماد طويلة، ومنه ما هو قصص وقعت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها قصص بعض الغزوات. وثمة خلافات كثيرة حول ما يصنف ضمن هذا النوع أو ذاك. وثمة خلاف آخر يصعِّب من مهمة حصر وتصنيف القصص القرآني وهو: هل القصص من المحكم أم من المتشابه؟ وما المقصود بالقصة القرآنية أصلاً؟ وما مقاصدها العامة والخاصة؟. وبخصوص مقاصد القصص القرآني، ثمة آراء متعددة أيضاً لم نصل- حتى الآن- إلى معرفة أَيُّها الأرجح وما دليل الرجحان؟. فالقصص القرآني هو من «المتشابه» بحسب رأي بعض العلماء؛ ومنهم: يحي بن معمر، والشوكاني، وهو من المحكم بحسب رأي آخرين؛ ومنهم: ابن حزم. أما مقاصد القصص فهي تشتمل على مقاصد: البيان، والوعظ، والتشريع، والكشف عن السنن الاجتماعية والتاريخية شأنها شأن بقية الأمثال القرآنية. وما يرجح تعددية مقاصد القصص، وعدم اقتصارها فحسب على مقصد الوعظ البليغ: ما ذهب إليه الإمام ابن تيمية قديماً، وسبق أن أشرنا إلى رأيه، إضافة إلى ما ذهب إليه العلامة أبو زهرة حديثاً؛ حيث قال: «ومن صور التصريف البياني بالقصص القرآني بيان بعض الأحكام الشرعية، فإنَّ ذلك يثبت هذه الأحكام ويدعمها؛ لأنها تكون أحكامًا متفقًا عليها في كل الشرائع السماوية، وبيان أنها غير قابلة للنسخ، وأنها مؤكدة ثابتة، وفي القصة تكون حكمة شرعيتها قائمة والغاية منها ثابتة» (أبو زهرة: المعجزة الكبرى، ص146). وعلى أية حال فما قدمناه ليس إلا تمهيداً لحصر القصص القرآني ومعرفة مقاصده العامة باعتبار ما في تلك القصص من «أمثال»؛ هي نموذجات الحكمة العالية.