الأحداث الحالية التي تمر على الوطن العربي أدت إلى تشتت أنظار وأفكار الشعوب العربية بين أحداث المناطق الساخنة، لتشكل نوعاً من الانشداد المتغير وتيرته وطبيعته مع كل خبر على شاشة التلفاز، هذه الأحداث بدأت تعمل أخيراً على تشكيل حال من التوتر الشعبي والإحباط على الصعيد العربي، وأصبحت نتائجها ضبابية بعد ربطها بالقضايا القديمة. المراقب للتصريحات الرسمية في الدول العربية يستطيع أن يرى بسهولة حالة متقدمة من الضياع لم يقف أثرها على الشعوب فقط، بل وصل إلى القيادات الرسمية والنخب الفكرية، التي انتقلت من أدوات ومنظومات فعالة أحياناً إلى أدوات مراقبة وعوامل ضياع وتضييع أيضاً، وهنا علينا أن ننتقل زمنياً لما قبل «ربيع الثورات العربية» لجرد الأحداث السابقة التي جعلتنا مستقبلين للتغيرات لا محدثين لها، وكذلك تهميش القضايا المزمنة لمصلحة الأحداث الجديدة. القضايا المركزية التي كانت تهيمن على الوضع السياسي العام في الوطن العربي كانت تتمثل في القضية الفلسطينية بشقيها، الأول الصهيوني، والثاني انفصال إمارة غزة عن الأم وبرعاية إيرانية، ثم تأتي قضية السلم الأهلي في لبنان، وتغول «حزب الله» واقتراب موعد القرار الظني لكشف دوره في اغتيال الحريري، وكانت العراق أيضاً شكلت قضية مركزية دائمة ومخيفة للوطن العربي، إذ تم تجذير نظام الحكم للمالكي كوكيل مزدوج لإيران وأميركا ولمصلحة المشروع الفارسي، وأصبح انقسام السودان، وحرب الحوثيين في اليمن من القضايا التي تهدد المنطقة العربية بالتناقضات الرئيسة نتيجة تزاحم مراكز القوى الغريبة عن النسيج العربي لاستلام أجزاء من «الكعكة» العربية. هذه القضايا المركزية انتهت جميعها إلى طرق مسدودة، وحتى أنصاف الحلول أغلقت في وجهنا تماماً قبل «ربيع الثورات العربية»، وأصبح لزاماً علينا الاتجاه للبحث عن وسائل فعالة لإنهاء هذه الملفات، إذ لم يكن يكفي الاستمرار في النهج السلبي القديم للدول العربية لحل هذه القضايا. إذاً بربط بسيط بين هذه الأحداث المفصلية والأحداث التي استجدت ب «ربيع الثورات العربية» نجد أن هذا «الربيع» أدى إلى إقصاء كامل للقضايا المزمنة والانتقال إلى تشكيل قضايا جديدة مختلفة عن القضايا السابقة، وربما حل علينا ليقدم حلولاً لقضايا مهمة أيضاً لم تكن ظاهرة بالصورة القوية، ولكن علينا أن نبحث عن التأثير المتبادل بين هذه «الثورات» وبين القضايا المركزية السابقة التي كانت ترهق الوطن العربي. ذلك يدفعنا للوقوف على مجريات القضايا المزمنة والقضايا المستحدثة علينا والبحث عن العوامل المشتركة فيهما، ويدفعنا كذلك للانطلاق لحصر مسببات هذه القضايا العربية ومحركاتها على الساحة التي يمكن وبكل بساطة، بعد درس القضايا «العراقية والفلسطينية واللبنانية» ربطها بعاملين رئيسين، أولهما: العامل «الأميركي الصهيوني الغربي»، والعامل الثاني «الإيراني الشعوبي والطائفي»، فجميع القضايا المركزية المزمنة كانت بفعل هذين العاملين وبتنسيق متجاذب ومتنافر أحياناً بينهما، وبحسب الحاجة الإعلامية المطلوبة لتسويق المداخيل والحجج لإحياء القضايا وإدامتها. حينها لا بد لنا من البحث عن دور للمحورين الأميركي والإيراني في القضايا المستجدة، أو في نتائج ربيع الثورات الحالي، واستقراء دورهما والبحث عن مصالحهما في هذه القضايا، وذلك من النتائج المتوفرة بصورة ضبابية عن أحداث مصر وتونس وليبيا واليمن وسورية، إذ نجد أن هذه الثورات قد تؤدي إلى إنشاء أنظمة عربية قوية بفعل تنظيف الساحات السياسية والاقتصادية من قُطّاع الطرق في هذه الساحات، ولكن هل تتشابه الثورات في نتائجها؟ وهنا علينا تذكر الثورة المندسة في البحرين، التي انكشفت الأيادي الإيرانية في صناعتها، التي كانت تعمل على قلب كامل لعروبة وإسلام البحرين لمصلحة المشروع الفارسي الطائفي الكبير. وكذلك علينا البحث في إن كانت هذه الثورات تعمل بالطريقة الصحيحة لإنتاج هذا التغيير؟ وهل يسمح لها بالسير بالطريقة العلمية والعملية لانتاج حكومات قوية تعمل على تثبيت وضع التغييرات المقترحة المطلوبة؟ علينا أن ننظر إلى التحركات الدائرة والمتوازنة مع الثورات التي تمت وتتم، وأن نضع في عين الاعتبار تحركات وتصريحات أحمدي نجاد، إذ أرسل وزيره للقاهرة لفتح علاقات جديدة واستقطاب للقادة المستحدثين، وفي الوقت نفسه هاجم السعودية، علينا أن نفهم سحب القوات الأميركية لدورها في ليبيا، والغزل الأميركي للنظام السوري. هذه التساؤلات والألغاز يمكن بسهولة استيعابها حين ننظر ببعض الجدية لمخطط كبير مستشاري الرئيس السابق بوش الأب والابن «برنارد لويس»، صاحب أخطر مشروع في هذا القرن لتفتيت العالمين العربي والإسلامي، من باكستان إلى المغرب، الذي نشرته وزارة الدفاع الأميركية، وعلينا الرجوع إلى تصريحات ضابط المخابرات البريطاني «ستيفن هوك»، الذي كشف خلال تقرير استخباري خطر ما يجري بالشرق الأوسط، إذ يذكر التقرير بأنه وعقب حادثة 11 أيلول (سبتمبر) تم التواصل بين الجهات العليا في إيران وأميركا، وقام بعدها وفد إيراني حكومي رفيع المستوى بالاجتماع مع «بوش» وبوجود «برنارد لويس»، وتم خلال هذا الاجتماع طرح عرض التحالف وتبادل المصالح في منطقة الشرق الأوسط مع أميركا، إذ أكد القادة الإيرانيون انتفاء مصطلح «الجهاد» من العقيدة التي تحكم إيران، وتنحصر الأهداف الإيرانية العقائدية بانتظار «المهدي» وتهيئة الأمر له من خلال ضرب وإنهاء المعاقل العربية والإسلامية «الجهادية» على حد تعبير الرأي الإيراني، وقد ثبت هذا التعاون وطبق على الفور في أفغانستان والعراق ولبنان ومستمر للآن. علينا الحذر والريبة من التحركات الأميركية والإيرانية، لأن هدفها هو «شرق أوسط جديد»، مهمتنا فيه لبس دور «الريبوتات» التي تتحرك ب «الريموت كنترول» المصمم بأزرار أحدها «ثورة الشباب»، وآخر «حزب الله»، والثالث «ثورة الفيسبوك»، والرابع «الإسلام السياسي»، والخامس «الخلايا النائمة»، بينما تجلس نخب مراكز الفكر الغربية الصهيونية تدق الأنخاب مع ملالي الحرس الثوري الإيراني وهي تتسابق لإنتاج ما يُسمى «الشرق الأوسط الجديد».