تعيش الولاياتالمتحدة أجواء الذكرى السنوية الأولى لتنصيب رجل الأعمال الفج ونجم تلفزيون الواقع دونالد ترامب رئيساً، ويبدو أنها لم تستوعب تماماً الصدمة السياسية الموصوفة في انتخابات عام 2016، ولم تجد بعد سياقاً مقبولاً للتطبيع مع الحال المستجدة والتي كانت بكل المعايير بمثابة زلزال سياسي. لم يضف كتاب «النار والغضب» الذي ألّفه مايكل وولف بمساعدة كبير مستشاري الرئيس ستيف بانون، الكثير إلى ما يتم تداوله في أروقة واشنطن عن ترامب كشخص وكرئيس، إلاّ أن الكتاب نجح في تظهير كيفية تحوّل رجل أعمال شديد النرجسية كثير الكلام خلال سنة رئاسية إلى شخصية تجمع بين دون كيشوت والإمبراطور العاري. وكيف أنه لا يمثّل خطراً على أميركا وحسب وإنما على الديموقراطية كنظام للحكم، ليس بينه وبين الشمولية سوى التراث الهائل للنظام الأميركي من القدرة على التصحيح عندما يشتط الحاكم. لكن ترامب لم يكن صاعقة في سماء صافية. المسألة لم تبدأ عام 2015 حين أعلن ترشحه للرئاسة عن الحزب الجمهوري. عندما نزل على السلم المتحرك في البرج الذي يحمل اسمه في نيويورك برفقة زوجته ميلانيا المهاجرة من سلوفينيا، ليشن هجوماً عنصرياً غير مسبوق على المهاجرين، خصوصاً من المكسيك وأميركا اللاتينية، لم يكن يرتجل موقفاً شعبوياً ليستدر عطف الناخبين، لم يكن شعاره «اجعل أميركا عظيمة مجدداً» من بنات أفكاره، بالضبط كما كان موقفه الرافض هجرة أي مسلم إلى أميركا، أو مواقفه من التغيُّر المناخي والطاقة البديلة أو القانون الدولي. كانت المسألة تعود إلى الستينات. حين تم إقرار الحقوق المدنية للملونين، شعر الكثير من الأميركيين البيض، الذين تعوّدوا على نظام الفصل العنصري لعقود، أنهم يفقدون امتيازاتهم تدريجاً. التقط هذه المشاعر السيناتور من ولاية أريزونا باري غولدواتر الذي خسر انتخابات الرئاسة أمام ليندون جونسون عام 1964 والذي أعلن صراحة أن حزب ابراهام لينكولن الذي قاد الحرب الأهلية ضد ولايات الجنوب لتحرير العبيد وإنهاء نظام الرق، عليه أن يستثمر في المشاعر العنصرية الجنوبية للفوز. كان الفائز الأول بهذه المعادلة رونالد ريغان، الذي سارع إلى محاربة النقابات بلا هوادة لتضييق فجوة العبور إلى «جنة» الطبقة المتوسطة، وسعّر المشاعر الوطنية البيضاء. بعد بيل كلينتون الذي افتضح علناً، لأسباب كيدية، وجورج بوش الابن الذي ربح الصوت الترجيحي للمعهد الانتخابي جاءت الصدمة عام 2008. انتخاب باراك أوباما. ليس باراك أوباما وحسب، وإنما باراك حسين أوباما. في بلد كأميركا يتناقش علناً عما إذا كان شخص أسود يصلح ليكون رأس الهجوم في لعبة كرة القدم أو مدرباً لفريق منه، لم يكن وصول رئيس أسود باسم مسلم شأناً عادياً. كانت هذه أولى الصدمات الديموغرافية التي يجب على العنصريين البيض التنبُّه لها. لم تعد أميركا الملعب الأوروبي الأبيض الأثير، صار لديموقراطيتها أسنان وأنياب. كان على الحزب الجمهوري أن ينتظر أربع سنوات ليرى رد الفعل الأبيض على هذه المعجزة السوداء. أثبت أوباما في ولايته الأولى أنه رئيس من طراز رفيع. تمكّن خلال سنة واحدة فقط من إخراج أميركا من المستنقع الاقتصادي اليائس الذي تركها بوش الابن فيه. والأهم لم يكن في سلوك أوباما ما تعوّد البيض على اجتراره من صور نمطية عن السود، من كسل وفشل وفساد. كانت إدارة أوباما الأنظف في التاريخ الأميركي، وأعيد انتخابه لولاية ثانية. بعد تكرار انتخاب أوباما عام 2012، على رغم انتشار ظاهرة «حزب الشاي» وتمكنه من إيصال كتلة وازنة إلى الكونغرس، خصوصاً في مجلس النواب، حرص الجمهوريون على مراجعة واقع الحال. أنشأوا لجنة أطلقوا عليها اسم « لجنة تشريح الحزب الجمهوري»، كانت مهمتها معرفة أسباب «وفاة» الحزب الجمهوري رئاسياً. وقاربت تلك اللجنة المسألة من زاوية تقليدية تليق بالتراث الأميركي. قالت إن الحزب الجمهوري يعاني من التصلُّب الأيديولوجي، ومحاباة الميسورين على حساب العمال، واستعداءه للأقليات، ورجعية في السياسة الاجتماعية، وقمع للابتكار والاختلاف. لم تكن لجنة التحقيق في أسباب إخفاق المرشح الجمهوري في الوصول إلى البيت الأبيض مركز الثقل في الحزب ولا موضع اهتمام الكتلة الأكثر تشدداً. كانت معطيات وعوامل كثيرة تتفاعل في الجناح المحافظ والأكثر حرصاً على تفوّق العنصر الأبيض. في تلك الحالة كان ترامب البليونير الكثير اللغو مستعداً للإساءة إلى أوباما. صعّد كلامياً ما بدأه من اليوم الأول لانتخاب أوباما بالترويج أنه لا يستحق الرئاسة لأنه مولود في كينيا وليس في الولاياتالمتحدة. لم تكن تلك نقطة قانونية بالطبع. كان المطلوب هو الطعن في أهلية رجل أسود لحكم أميركا، وكانت محطة «فوكس نيوز» والبرامج الإذاعية اليمينية ذات النفوذ الكبير، تستضيف ترامب عند الطلب ليقول ما لا يمكن لمسؤول منتخب أن يقوله. أدى النزاع داخل الحزب الجمهوري بين «حزب الشاي» والمؤسسة التقليدية إلى تجييش مشاعر مناصري الحزب ضد التقليديين، وعلى خط مواز كانت خريطة الدعم المالي للحزب تتغير تدريجاً وتنتقل من النفوذ المطلق للأخوين الثريين تشارلز ودايفيد كوك، اللذين أشرفا لسنوات على تنظيم التبرعات السخية إلى المرشحين الجمهوريين ومراكز الأبحاث والاستطلاع اليمينية، فضلاً عن شخصيات جديدة مثل عائلة ميرسير وشيلدون أدلسون ومجموعة من أصدقائهم الذين أنشأوا مركز بحث واستطلاع يميني متشدّد يضم مختصين من الولاياتالمتحدةوبريطانيا. كانت مقاربة الفريق الجديد، الذي اتخذ من سان أنطونيو- تكساس مقراً له، مختلفة، تعتمد على استطلاعات فرعية مركزة وعلى تحليل المعلومات الشخصية للناخبين وفق مناطق السكن أو قطاعات العمل، وهو الأسلوب الذي اعتمدته شركة «كامبردج اناليتيكا» لإنجاح حملة «بريكزت» في بريطانيا. عمل الفريق بإدارة مات أوكاوسكي وانضم إليه مدير الاستطلاع في مؤسسة ترامب براد بارسكال، وكانت المهمة الأساسية تقديم اقتراحات عملية لتوسيع القاعدة المتشدّدة بين الناخبين الجمهوريين، وكانت النتائج تترجم إعلامياً عبر محطة «فوكس نيوز»، وبصورة أكبر وأكثر فجاجة عبر مواقع إخبارية على الإنترنت أبرزها «بريتبارت» الذي يتولى رئاسة تحريره ستيف بانون والذي لم يكن يتواني عن العنصرية المكشوفة في تعاطيه مع القضايا المطروحة. أثار عمل فريق سان أنطونيو انتباه بعض أقطاب المحافظين وصار له موطئ قدم في الخريطة الجمهورية، إلا أن الحدث الحاسم الذي غيّر اللعبة برمتها كان في حزيران (يونيو) 2014، وفي مكان آخر، في ولاية فرجينيا، تحديداً في الدائرة الانتخابية السابعة حيث خسر زعيم الغالبية الجمهورية في مجلس النواب والنجم الصاعد في الحزب أريك كانتور في الانتخابات التمهيدية أمام ديفيد برات وهو مرشح غير مغمور ينتمي إلى «حزب الشاي»، لتكون سابقة في التاريخ الانتخابي الأميركي بأن يخسر زعيم الغالبية النيابية في انتخابات تمهيدية. لم يكن فريق سان أنطونيو في منأى عن هذه الواقعة. إذ وفّر لبرات المعطيات الإحصائية والنقاط الدعائية الجاذبة للناخبين، وتلخصت في معاداة المهاجرين (مع أن فرجينيا ليست ولاية حدودية تعاني من المشكلة) ومعاداة المؤسسة (التي يرمز إليها بالعاصمة واشنطن، فواشنطن فاسدة كلها بصرف النظر عن الحزب). وفيما كانت قيادة الجمهوريين تتأمل في سبب خسارة كانتور كانت التشكيلة المتشددة الجديدة تبحث عن مرشح قادر على استقطاب الناخب اليميني الغاضب عاطفياً والخائف ديموغرافياً. كان الاقتصاد في حينه معافى، والبطالة في أدنى معدلاتها منذ عقود، وكانت إدارة أوباما تنفذ سياسة متشدّدة تجاه المهاجرين غير الشرعيين أكثر من أية إدارة سابقة، أعداد المهاجرين تتناقص، لكن تلك العناوين كانت جذابة بصرف النظر عن الحقائق. كانت لائحة المرشحين «الجديين» للرئاسة في الحزب الجمهوري تضم نخبة من الأسماء اللامعة ذات التجارب الطويلة في الحكم والتشريع وكانت ماكيناتهم الانتخابية المعززة بموازنات ضخمة مستعدة للانطلاق، لكن روبرت ميرسير وستيف بانون كان لهما رأي آخر. كان دونالد ترامب شعبياً حامل لواء التصدي الإعلامي لأوباما، وهو يحمل كل الصفات التي تجذب الناخب الأبيض الذي لم يستوعب بعد أن رئيسه أسود. تم اختيار ترامب كما يتم اختيار فأر المختبر للتجارب. بدأ بانون استضافته في موقعه تكراراً، انفتحت أبواب «فوكس نيوز» أمامه أكثر، صار ضيف البرامج الصباحية والمسائية وضيف البرامج الإذاعية، وكان فريق سان أنطونيو يتابع ذلك عن كثب. وفي السادس عشر من حزيران 2015، نزل ترامب بمعية زوجته على السلم المتحرك ليعلن ترشيحه للرئاسة وشن هجوماً لاذعاً على منافسيه الجمهوريين، ثم على المهاجرين والمسلمين والصين والاتفاقات الدولية، وتكراراً على أوباما... والبقية معروفة. لم يأخذ أحد ترشيح ترامب على محمل الجد. حتى انه اختار مديراً لحملته الانتخابية شخصاً مغموراً لم يشارك إلا في حملة انتخابية واحدة على مستوى دائرة انتخابية في ماساتشوستس. إلا أن ما بدأ كطرفة تحوّل تدريجاً إلى حملة جدية. أطاح ترامب خصومه الجمهوريين تباعاً، وكان كلما ازداد وقاحة وفظاظة كلما ازدادت شعبيته. ارتكب خلال حملة الانتخابات التمهيدية ومن بعدها الانتخابات العامة عدداً من الأخطاء تكفي واحدة منها فقط لإنهاء المسيرة السياسية لأي مرشح أو مسؤول. ضخ كماً هائلاً من الأكاذيب، فتح مبكراً معركته الشرسة ضد الإعلام المستقل، ولم يتوان عن إهانة الصحافيين بالاسم. كل ذلك لم يحرم ترامب من الفوز. صحيح أن هيلاري كلينتون فاقته في عدد الأصوات، إلا أن فريقه لم يكن يهتم بالطريقة التقليدية للاستطلاعات. عمل بجهد لخلق كتلة ناخبة صلبة في كل منطقة وكل دائرة وكل ولاية وفق نتائج أبحاثه. وكما نجحت «كامبردج اناليتيكا» في التصويت لإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، نجحت مجدداً في إيصال ترامب الذي لم يحصل على تزكية أية صحيفة سوى «نيويورك أوبزرفر» التي يملكها صهره جاريد كوشنر. لكنه نجح في واقعة لا تصدق، حتى أنه هو نفسه في كلمة له أمام البيت الأبيض نظر بدهشة إلى أعضاء الكونغرس المتحلّقين حوله في الثالث من أيار (مايو) 2017، أي بعد أكثر من ثلاثة أشهر على توليه منصبه، وسألهم: «هل أقوم بعمل جيد... مهلاً أنا الرئيس، أنا الرئيس هل تصدقون ذلك... حقاً»؟ حتى الآن لا أحد يريد أن يصدق. في استطلاع شامل أجرته مؤسسة «كوينيبياك» الجامعية الربيع الماضي حافظ ترامب على مستوى التأييد المتدني (36 في المئة) إلا أن الاستطلاع حمل ما هو أسوأ. كانت أول ثلاث صفات أطلقها المشاركون لدى سؤالهم عن الصفة التي تخطر في بالهم عند ذكر ترامب هي: أحمق، غير كفوء، وكذاب. الواضح أن الذين يعتبرونه قائداً ورئيساً على قلّتهم في الاستطلاع، كانوا كافين لإنجاحه في الاقتراع. من الصعب رسم صورة موحّدة للناخب النموذجي بالنسبة لترامب... حتى الآن تتكون القاعدة الصلبة المؤيدة له من الناخبين البيض البروتستانت والمسيحيين عموماً من سكان الولايات الجنوبية، الرجال البيض غير الحاصلين على شهادة جامعية وسكان الأرياف. إلا أن هذه القاعدة غير ثابتة وسيكون انفصال بانون عن ترامب مؤشراً على تصدّعات فيها... إلا أن الأهم بالنسبة إلى ترامب الغارق في دوامة التحقيقات عن التواطؤ مع روسيا أنه يواجه استحقاقين حاسمين قد يعجّلان في محاكمته الدستورية. الاستحقاق الثابت هو الانتخابات النصفية في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل وتشير التوقعات إلى فوز سهل للديموقراطيين فيها، أما الاستحقاق الآخر والذي لا يعلم أحد بتوقيته فهو هبوط سوق الأسهم «وول ستريت» الذي يُجمع الخبراء على أنه وشيك الحدوث، ما يعني حرمان إدارة ترامب من مواصلة حصاد النتائج الإيجابية للسياسة الاقتصادية للإدارة السابقة والتي وضعت الاقتصاد الأميركي على سكة نمو غير مسبوقة. وسيتوقف الكثير من مصير ترامب على حجم «التصحيح» في سوق الأسهم، فإذا كان شبيهاً بآخر ثلاث مرات، سيكتشف الجمهوريون أن ترامب الذي استعدى الكل في دوره الدونكيشوتي، من خلال مناكفاته التي لا تتوقف، أصبح إمبراطوراً عارياً، وعليهم أن يتصرفوا على هذا الأساس، خصوصاً إذا بكّرت الصدمة الاقتصادية عن موعد انتخابات الخريف.