في إطار النشاط السنوي لمسرح الثقافة الجماهيرية في مصر، قدّم المخرج أحمد عبد الجليل مسرحية «آه يا ليل يا قمر»، مع «فرقة البحيرة القومية»، على مسرح دار الأوبرا في مدينة دمنهور (شمال مصر). المسرحية كتبها الشاعر الراحل نجيب سرور (1966) ضمن ثلاثية بدأها ب «ياسين وبهية»، وختمها ب «قولوا لعين الشمس». والثلاثية تستلهم الحكاية الشعبية الشهيرة عن بهية وحبيبها ياسين، في محاولة للإجابة عن سؤال تغنّى به المصريون طويلاً: «يا بهية خبريني عن اللي قتل ياسين». لكن نجيب سرور لم يكن يتوقف عند سرد الحكاية، ولم يهتم بروايتها وفقاً لأحداثها التراتبية، إنما اتخذ منها متّكأً درامياً للكشف عن أساليب قهر الشعب المصري طوال فترة الاستعمار البريطاني، مستخدماً المنهج الملحمي الذي وضع أسسه برتولد بريخت. المسرحية تبدأ بعد مقتل ياسين، لتتّخذ مساراً جديداً في حياة بهية إذ ترتبط بعلاقة عاطفية مع أمين-العامل الذي كان صديقاً لياسين-الفلاح. وكأن نجيب سرور يضع، بهذا التطور وهذا التغيير في صفة المحب، اللبنة الأولى في بناء جديد يستكمل به جداريته عن نضال الشعب المصري في تلك الفترة. لكن بهية تعاني صراعاً يؤججه شعورها بخيانة حبيبها الشهيد، وهو الصراع الذي تحسمه مجموعة الكورس حين تقتنع بهية بأن «الحي أبقى من الميت». فينشأ صراع آخر بين بهية وأمها وأمين من جانب، وبين والد بهية من الجانب الآخر، وهو الصراع الذي تحسمه أيضاً مجموعة الكورس لمصلحة الحبيبين، لينتهي الجزء الأول بموافقة بهية، ومن بعدها أبيها، على الزواج من أمين والسفر معه إلى مدينة بورسعيد. وهناك يرسم نجيب سرور ملمحاً آخر من ملامح النضال الشعبي. الانتقال إلى بورسعيد يرتقي بالصراع داخل المسرحية. فأمين، المناضل القديم، يضطر للعمل في معسكر الإنكليز، فيقع في مأزق نفسي يحاول الخروج منه بمعاقرة الخمر، ما يؤثر في علاقته ببهية التي نراها طوال المسرحية تتسلق درجات الوعي وتصطحب معها المتلقي إلى آفاق تصل إلى ذروتها حين يثور أمين على خنوعه واستسلامه ويشارك في إضرابٍ سريعاً ما يتطور إلى تظاهرة تنتهي باستشهاده. تتشابك الحكايات داخل النص، ويتعدد الرواة، فمرة تكون الراوية بهية، ومرة يكون أمين، ثم الأب، ثم الأم. لكن الكورس يؤدي هذه الأدوار كل على حدة، لدفع الحكاية إلى الأمام من خلال تدخله عبر حوارات مع الأبطال. الأمر الذي يجعل من الكورس معادلاً للمتلقي الذي يطرح الأسئلة ويشارك في البحث عن إجابات، وهي بالتالي حالة من التغريب ستتأكد عبر عناصر أخرى. وكما استفاد سرور من أسلوب السرد في الانتقال من حدث إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، من دون إرباك المتلقي، يستفيد من هزيمة بطله أمين ولجوئه إلى الخمر ليجعله يبوح بصراعه النفسي واتهامه لذاته بالخيانة، مبتكراً مشهداً يمهّد به لتطور الشخصية وعودتها مرة أخرى إلى سرب الثوار. وبوعي إخراجي بالأسلوب الملحمي الذي اختاره نجيب سرور لنصّه، يتعمّد المخرج أحمد عبد الجليل كسر الجدار الوهمي الذي يفصل بين الخشبة والصالة بأكثر من وسيلة. كأن يتعمّد، مثلاً، ترك خشبة المسرح مكشوفة أمام المتلقي قبل بداية العرض، ما يتيح له الفرصة ليتأمل المنظر المسرحي ومصادر الإضاءة. كما اختار زيّاً عصرياً يرتديه الراوي الذي سيصعد من الصالة وكأنه أحد المتفرجين ليحكي عن شخوص تقف في تشكيل ثابت ولن تبدأ في التحرك إلا بإشارة منه. كذلك جاء المنظر المسرحي ببساطته ليؤكد هذا المنهج التغريبي، إذ ستأتي مساحة التمثيل خالية تماماً من أي تفاصيل باستثناء ذلك المبنى الضخم الذي يقف وحده في منتصف فراغ المسرح ويشير إلى قصر قد يكون للباشا أو العمدة أو لأي سلطة قاهرة كانت سبباً رئيساً في معاناة أبطال الحكاية. وربما يكون مصمم الديكور، محمود خليل، استدعى هذا القصر من قصيدة نجيب سرور الأشهر «الحذاء» إذ يقول: «وقام هنالك قصر يكاد ينام على قريتي ويكتم كالطود أنفاسها». إلا أن المخرج يفاجئنا باكتفائه بهذه الإشارة من دون أدنى محاولة لبناء علاقة بين هذا المبنى والشخصيات، سواء بالحركة أو القول. ويجتهد المخرج في تدريب ممثليه على أداء يصنع مسافة بين الشخصية ومؤديها ليمنع المتلقي من التوحد مع الشخصيات، باستثناء بعض الممثلين الذين وقعوا في فخ الأداء الميلودرامي المناقض تماماً لهدف إعمال العقل الذي حرص عليه النص واجتهد المخرج في تحقيقه.