ربما يكون اجتماع أسماء ذات مكانة في تاريخ السينما في برنامج واحد، كافياً للقول إننا أمام برنامج متفرد يحب السينما ويقدم، لجمهور هو أيضاً متفرد ويحب السينما، تظاهرة في الفن السابع استثنائية. وربما استثنائية هنا في بيروت على رغم أنها قد تعتبر عادية، وإن كانت مميزة، لو تقام في أي مكان متحضر آخر. لكنها في بيروت، حيث تُمنع الأفلام وثمة من يكرهون كل إبداع حقيقي ومن يرعبهم أن صوتاً لا يشبه صوتهم. في بيروت «الجديدة» هذه، من المؤكد أن تظاهرة من هذا النوع سوف تبدو استثنائية، ولا سيما حين تجمع في أمسيات سينمائية تعبق بحب السينما، المختلفة حتماً عما يقدم في الصالات ولا سيما من «شرائط» لبنانية لا علاقة لها بالسينما لا من قريب ولا من بعيد، حين تجمع جمهوراً لا يزال وفياً لهذا الفن الذي يرفض أن يموت على رغم العدد الكبير والمتزايد لمن يرغبون في قتله. مكرمون وطلاب المهم، ها هو مهرجان السينما الأوروبية يعود الى العاصمة، كما إلى مدن لبنانية أخرى- وتلك واحدة من مزاياه الكبيرة التي لن نمل من الثناء عليها- في دورة رابعة وعشرين تضم العديد من العروض والتظاهرات والاكتشافات السينمائية، إضافة طبعاً الى ما هو معهود من تقديم لإنتاجات جديدة حققها طلاب السينما في عدد من الجامعات والكليات اللبنانية وتتبارى في ما بينها للحصول على جوائز قد تكون متواضعة لكنها محفّزة بالتأكيد. فإن تنبهنا إلى أن التظاهرة تحتفي كذلك باثنين من أهل السينما رحلا في العام المنصرم هما الفنانة الفرنسية جان مورو، والمخرج اللبناني جان شمعون ناهيك باستعادتها ذكرى كبير من مؤسسي فن السينما التخييلي في العالم، بل مؤسسه الحقيقي الفرنسي جورج ميلييس في احتفال لن يخلو من عرض لأعمال له على وقع موسيقى حية تُعزف في الصالة، يصبح من حقنا أن نقول إننا هنا أمام واحدة من أهم المناسبات السينمائية التي يعرفها لبنان، وعلى الأقل منذ انقضاء الدورة السابقة، الثالثة والعشرين. إذ بدءاً من الرابع والعشرين من الشهر الجاري، وكما جاء في بيان لبعثة الاتحاد الأوروبي في لبنان، تقيم البعثة هذه الدورة الجديدة ل «مهرجان السينما الأوروبية» بالتعاون مع الدول الأعضاء في الاتحاد وبرعاية من وزير الثقافة اللبناني- الذي نأمل بأن يكون أحد قد همس في أذنه في هذه الأثناء أن ستيفن سبيلبرغ لم يحقق فيلماً اسمه «بيروت»! - في عروض تتواصل حتى الرابع من شباط (فبراير) المقبل، وتجوب بعض أفلامها مدناً كطرابلس وصيدا والنبطية وزحلة وجونيه وصولاً الى دير القمر- هنا بالتعاون مع المعهد الفرنسي. وفي مجالات أخرى بالتعاون مع معهد غوته. شؤون بلدان أوروبا ومع هذا، يظل العصب الرئيسي للتظاهرة، عروض الأفلام الآتية من عدد كبير من بلدان الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك بريطانيا التي لم يأخذ المهرجان، لحسن الحظ، دأبها للخروج من الاتحاد. وفي شكل إجمالي قد لا نكون هنا في حاجة الى الإشارة الى أن الغالبية العظمى من هذه الأفلام، لن يقيّض للجمهور اللبناني أن يراها في أماكن أخرى، فهي، في لبنان «الجديد» على الأقل، ليست من النوع الذي يستهوي جمهور المراهقين وصالات المراكز التجارية، أو حتى ذلك الجمهور الذي تصطاده كاميرات التلفزة اللبنانية محولة إياه الى «صاحب رأي في السينما» ليخبرها أن أفلاماً شاهدها لتوه، مثل «حبة كاراميل» أو «ساعة ونص»، هي «أعظم ما شاهد في حياته من أفلام». هذا الجمهور لن يفهم شيئاً بالأكيد من فيلم فاز قبل شهور بالسعفة الذهبية في «كان» إذ يمثل السويد هنا، فيلم «المربع» وهو واحد من تسعة وعشرين فيلماً تعرض في المهرجان وتكاد تضاهيه في مستواه، وجمهور لن يستسيغ مزاج فيلم الافتتاح البلغاري الرائع «القرد» الذي حصد جوائز عديدة حيثما عرض. ولئن كان هذان الفيلمان هما الأشهر بين عروض التظاهرة، فإن الأهم من هذا هو أن الأفلام جميعاً، واختيارها الموفق، ستكون قادرة، ليس فقط على إعطاء جمهور ذواق في بيروت وغيرها من المدن، صوراً متنوعة وواقعية في أغلب الأحيان عما باتت تعيشه أحوال المجتمعات الأوروبية في ضوء التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تسود خلال السنوات الأخيرة، بل أكثر من هذا، ستعطي هذا الجمهور فكرة في منتهى الوضوح عن حال السينما نفسها، كإبداع إن لم يكن كصناعة وتجارة، في ما لا يقل عن عشرين بلداً أوروبياً يمكن القول إن الفن السينمائي المبدع والذي لديه أشياء كثيرة يقولها، لا يزال في خير ولا يزال ينتج أعمالاً إبداعية مرموقة تؤكد من دون هوادة أن هذا الفن سيبقى مثل طائر الفينيق يعرف كيف يولد من رماده، ويعرف أكثر من هذا كيف يدبّر أموره بحيث يصل الى جمهوره على رغم العقبات والحصار وضروب التفاهة التي تحاصرنا في كل مكان... بقي أن نذكر أن الجمهور مدعوّ هنا بالمناسبة الى التعرّف من ناحية الى واحد من أجمل أفلام جان مورو، أي «مصعد للصقالة» (1957) للوي مال والذي كان واحداً من أول التحف السينمائية التي أطلقت في ذلك الحين مسار جان مورو الذي سيضحي بعد ذلك واحداً من أغنى المسارات لأية ممثلة فرنسية كبيرة، ومن ناحية ثانية، الى الفيلم الروائي الوحيد الذي حققه جان شمعون في مسار سينمائي حافل بالأعمال الوثائقية التي عبر في معظمها عن القضية الفلسطينية التي نذر لها حياته، فيما كرس ل «القضية اللبنانية» هذا الفيلم النادر الذي يعتبر عرضه في المهرجان مناسبة طيبة للعودة إليه... وهذا الى جانب تلك التحف الأوروبية التي تعرض في سياق المهرجان، وسبق لمعظمها أن ثبّت مكانته في راهن السينما العالمية، من الدنماركي «عبر المياه» الى فيلم راؤول بيك، والذي يقدم باسم ألمانيا «كارل ماركس شابا»، مروراً ب «فيليسيتي» لألان غوميس (فرنسا) و «عن الروح والجسد» الهنغاري، و «تونيو» الهولندي و «تخرج» للروماني المبدع كريستيان مونجيو، وغير ذلك من أعمال لا يمكن أن تبرح الذاكرة ما أن تُشاهد ولسان حالها يقول «ما زالت السينما الحقيقية ممكنة»!