قارئ رواية «فيرديدوركه» للكاتب البولوني فيتولد غومبروفيتش (دار الجمل- بيروت، ترجمة أجنيشكا بيوتروفسكا)، يكتشف كم كان ميلان كونديرا محقاً حينما صرّح بأسى: «أن تصبح رواية «الغثيان» لجان بول سارتر نموذجاً للاتجاه الجديد بدلاً من رواية «فيرديدوركه»، فهو أمر له عواقب مأسوية. منذ أن تزاوجت الفلسفة والرواية، تطورت هذه الأخيرة في مناخ من الملل». تبدو اليوم رواية غومبروفيتش جوهرة أدبية في فترة ما بين الحربين العالميتين، التي عرفت بتيار السخرية والليبرالية والابتكار الذي وصل إلى ذروته نهاية الثلاثينات، عشية الكارثة. كانت مرحلة الاستيعاب المحموم للمشروع الحضاري الغربي والتعويض عن التأخّر الناجم عن العوامل التاريخية والحماسة العظيمة تجاه كل ما هو حديث– «المدينة– الجموع- الآلة»، التي تغنى بمحاسنها أعضاء الطليعة، أي التقدم التقني، والديمقراطية الوليدة، وحركات التحرر، والثورة الفنية، والثورة على التقاليد. نشرت رواية «فيرديدوركه» في خريف عام 1937، وليس عبثياً هذا التاريخ في الذاكرة الأوروبية لكونه مرتبطاً ببداية العد التنازلي النهائي لاندلاع الحرب العالمية الثانية التي اشتعلت رسمياً بعد عامين لتأخذ الكارثة من ثمّ شكل وحشٍ لم يسلم أحد منه، لا سيما في وسط وشرق أوروبا، أي في المناطق التي يسميها المؤرخون المعاصرون «الأراضي الدموية»، حيث لقي نحو خمسة ملايين ونصف مواطن بولندي حتفهم، أي أكثر من ستة عشر في المئة من سكان فترة ما قبل الحرب. لكنّ غومبروفيتش بدا محظوظاً حينما كان في تموز/ يوليو 1939 على متن سفينة متجهة إلى أميركا الجنوبية. تلقى الأنباء عن اندلاع الحرب في بوينس آريس، حيث قرر أن يبدأ حياة جديدة. صار يكسب عيشه من خلال قلمه حتى عام 1963، عندما عاد إلى أوروبا بدعوة ومنحة من مؤسسة «فورد» ليستقر فترة قصيرة في برلين الغربية ثم في فانس الفرنسية، حتى وفاته في 1969. تبدأ قصة الرواية هكذا: يظهر البطل من الحلم، من الإرباك، من الفراغ والفوضى، مرغما على أن يتخلى عن سنوات عمره «الثلاثين» ليعود طالباً مراهقاً على مقاعد الدراسة، يحرجه كابوس لا مفر منه ليجد نفسه في حالة «الخوف من اللاوجود والقلق من اللاحياة والفزع من فقدان الواقعية». من هو في الواقع؟ في البداية يحدثنا كشخص يقدم نفسه على أنه مؤلف «مذكرات من مرحلة المراهقة»، أي غومبروفيتش نفسه، ويتعزز هذا التلميح إلى سيرته الذاتية بكلمات الرواية الأخيرة، الحروف الأولى: ف.غ. لكن سرعان ما نعرف أن راوي القصة هو جوي كوفالسكي. لماذا هذه الازدواجية للراوي إذن؟ هذا جزء من اللعبة المعقدة التي تجري على مستويات العمل كله: من ناحية اللغة والسرد والنوع الأدبي، وكذلك على هذا المستوى حيث نواجه الصعوبة في تحديد هوية الراوي بوضوح. إنه يلعب أدواراً مختلفة ويرتدي مجموعة متنوعة من الأقنعة. في الحلم يرى جوي نفسه بأنه «صبي يافع أخضر»، وبعد الاستيقاظ من النوم يظلّ يشعر ب «ذُعر من التشتت»، أي غموضه الروحي والبدني والاجتماعي. يجب عليه أن ينتقل إلى «أشكال محدّدة ومتبلورة»، يرهقه ذلك البحث، يدفعه إلى تغيير الغرف والبيوت والأمكنة: «لم أكن شاباً ولا عجوزاً ولا مودرن ولا من طراز قديم، لا طالباً ولا صبياً، لا ناضجاً ولا غير ناضج»، إنها محض احتمال، مجموعة من الإمكانات، في الوقت الذي يبحث فيه عن لحظة انسجام مع حياته يسمع ذلك الصوت المؤرق: «أهلا ياجو، يا أحمق، يا... يا غير ناضج! وهكذا كنت حكيماً عند بعضهم وأحمق عند بعضهم الآخر وذا حيثية عند بعض الناس، وبالكاد يراني بعضهم الآخر وبسيطاً لدى البعض، وأرستقراطياً للآخرين». يعيش بطل فيرديدوركه معركته الكبرى والخاصة مع النضج، هو جوي الذي يبدو مُتنازَعاً بين التفوّق والدونية، وحميماً مع هذا وذاك، ومحترماً ومتجاهلاً وشهيراً ومحتقراً وواسع الحيلة وعاجزاً، وعشوائياً كيفما ترسو به الأوضاع. أراد بينكو المرعب جعله طفلاً، سحبه بقسوة من سنواته الثلاثين، ليضعه في أرجوحة «النضج، وعدم النضج». غومبروفيتش يطوّع لغته تارة لجوي الناضج وتارة أخرى لجوي المراهق على نحو مدهش، مثال ذلك بداية أحد فصول روايته: «في نهاية القرن الثامن عشر كان لدى فلاح من باريس طفل وكان لدى هذا الطفل طفل أيضاً، ثم كان لدى ذلك الطفل طفل آخر كان هو أيضاً لديه طفل، والطفل الأخير كان يلعب مباراة تنس». كل أبطال فيرديدوركه هم مهدَّدون بالعبث والفوضى وبأحداث تحدث على نحو متتال دون أن يرتبط بعضها ببعض، حتى الكلمات تخضع للفوضى العبثية ذاتها: «لقد سمعتم كلمات، كلمات وكلمات سوقية تتقاتل مع كلمات نبيلة، وكلمات أخرى غير ذات صلة». ينهي القارئ الرواية كاملة من دون أن يفهم سبب تسمية الكاتب لروايته، حتى نعثر على تصريح يؤكد فيه أنه سمّى روايته «فيرديدوركه»، كما يمكن المرء أن يسمي كلبه أو قطته. تتميز الرواية بعناوين طويلة وشائقة وضعها الكاتب لفصول روايته: «تلصص ومزيد من المغامرة في الحداثة، سيقان طليقة وحالة تلبس جديدة». تتوضح سوريالية غومبروفيتش في أنحاء كثيرة من الرواية مثل الفصل الرابع عندما يسميه: «مقدمة لفيليدور المبطن بالطفل». ثم يبدأ الفصل على النحو التالي: «قبل أن أستكمل سرد بقية هذه الذكريات الحقيقية، أود أن أضيف كاستطراد في الفصل القادم قصة قصيرة». يركّب غومبروفيتش فصول روايته ب «خبث» مدروس وذكي وهو يفضح الجوانب المثالية لجيله الشاب والمثقف والعاجز عن الحياة، يشرح لنا أسباب اليأس الناتج عن ذلك، وعن كآبة التصنع والضجر المؤدي إلى الغم، بحيث يجعل من أبطال «فيرديدوركه»، شهوداً صامتين لنهاية هزيلة: «على شكل تكشيرة غريبة لخليط مركب من الكلمات التافهة». لا غرابة في أن تعد هذه الرواية أثراً تاريخياً فريداً. لقد أدرجت في قائمة الكتب الكلاسيكية ووضعت في مناهج القراءات المدرسية علّ الطلاب يتنشقون هواء ذلك الزمن اللاذع.