ساورتني مشاعر متناقضة بينما كنت أقرأ رواية فيرديدوركه، للكاتب البولندي فيتولد غومبروفيتش (1969-1904) في ترجمتها العربية الصادرة أخيراً عن «منشورات الجمل»، والتي أنجزتها البولندية أجنيشكا بيوتروفيسكا. فالنص الذي يبدو عصرياً وطليعياً في تقنياته وأسلوبه، يعد اليوم من كلاسيكيات الأدب الأوروبي، والبولندي على نحو خاص، حيث نُشر في العام 1937. وهو على الرغم من كونه يعبر عن مأزق ذهني واجتماعي كبير مرت به أوروبا بعد الحرب العالمية، لكنه يمتح من إحساس مدهش بالسخرية التي يمتلك الكاتب ناصيتها ببراعة. ويبدو وهو يطرق بمطرقته القاسية على القيم المبتذلة والمراهقة التي سادت آنذاك، قادراً على أن يضحك القارئ على المفارقات التي تقوم بها الشخصيات. وقد تشعر أيضاً بالغبن على اعتبار أنّ كاتباً متمكناً مثل غومبروفيتش تعرّض للتهميش الذي أخّر ترجمة هذا النص الى العربية مثلاً، حتى نحو أربعين عاماً على وفاته. يتأمل الكاتب مجتمعاً، وربما أكثر من مجتمع أوروبي آنذاك، ويدرك أنّ السمة الرئيسة التي تسم هذا المجتمع هي نوع من المراهقة التي تحول بينه وبين النضج. ومن هذه الفكرة نجد الراوي، جويكوفالسكيو (30 سنة) يُختطف، بعدما يفيق مباشرة من كابوس كان يحلم به، مسحوباً من يديه بواسطة «خوجة» أو معلم مدرسي تقليدي، يدعى بيمكو، يقوده إلى حيث ينبغي له أن يعيش، بحكم رؤى الخوجة، كمراهق في السابعة عشرة في المدرسة أولاً، ثم كفرد في عائلة يوفرها له هذا الخوجة وتتكون من أم وأب يمثلان جيلاً عايش الحرب، بينما الفتاة من جيل عصري متمرد يختبر القيم الجديدة في المجتمع بعد الحرب. لا ينجو أحد من سخرية الراوي، ولا حتى هو نفسه. المراهقون الذين يمنحهم الراوي أسماء غريبة مثل الكباس، وسواه، يعارضون افتراضات المدرس بأنهم أبرياء، ويصرون على أنهم ليسوا كذلك، ويحاولون بكل السبل، بالصراخ والاعترافات والتصارع في أحزاب مختلفة لإثبات ذلك. وهم يبدون، على رغم كل هذا الحماس، في الواقع ضحايا الصورة التي يكونونها عن أنفسهم، وليس القيم التي يؤمنون بها. وحين يرينا الكاتب جوهر تناقض مفهوم المراهقة، يبدأ بتسليط الضوء على هذه المراهقة، أو الصبيانية أو عدم النضج على بقية نماذج المجتمع: المدرسون، الآباء، الأمهات، فتيات العصر الحديث المتحررات، وبقية نماذج «المدينة» العصرية الحديثة، التي ترفل وفق تصورات الكاتب في مهرجان من عدم النضج. هذا النكوص، يعني أن رغبة المراهقين في النضج هي نفسها ما يجرهم إلى النقيض، بما فيها كشف الراوي جوي نفسه وتعريته لمظاهر لا أخلاقيته في الإيقاع بالفتاة المراهقة التي أحبها ورفضته، وأن الرغبات الشكلية هي ما تحمل المراهق إلى المزيد من الانهيار أو السقوط في مزيد من التفاهة واللانضج، وهو الأمر الذي يصل ذروة تحققه مثلاً في الجزء الأول من الكتاب بمشهد فضائحي يتورط فيه أب وأم وابنة وعشيق ومدرس مع الراوي، ينتهي بعراك جسدي على الأرض. وبينما يرقب المدرس المشهد ولا يعرف ماذا يفعل بنفسه فإذا به يلقي بنفسه على الأرض مثل الآخرين بعيداً عنهم، ثم يرفع يديه وساقيه عالياً. مشهد درامي ساخر ومبهر في الكيفية التي تنتقل بها عدوى اللانضج في أي مجتمع. مشهد يذكّرنا بسينما تشارلي تشابلن في الواقع. فغالباً ما يتورط في مواقف غريبة لأنه لا يتوافق مع استخدام أدوات العصر الحديث، ولا ينجح إلا حين يكون على طبيعته، حرّاً بالمعنى الحقيقي. وهكذا، كما يقول غومبروفيتش نفسه في تقديمه للترجمة الإسبانية لهذا النص: «يتشكل ذاك العالم من التراخي وعدم الكفاية وعدم الجدية وعدم المسؤولية،عالم من ثقافة تحتية لأشكال عفا عليها الزمن، ماتت مبكراً، منحرفة وغير نقية، حيث تنبسط حياتنا الداخلية. هناك تتشكل مثلٌ تحتية مذهلة، أديان تحتية، مشاعر تحتية وعدد من الأشياء التحتية بالغة الاختلاف عن تلك التي للعالم الرسمي». في الجزء الثاني من الرواية يغادر المدينة إلى الريف، إلى العميمة، كما يطلق الراوي على عمته، ويظهر التناقضات الصارخة للمجتمع البورجوازي في الريف والذي يستخدم طبقة الفلاحين كعبيد. ويبيّن عبر مشاهد فنية عديدة كيف ينتقل احتقار البورجوازي الطبقي للفلاح إلى أي بورجوازي مدني آخر لمجرد إظهاره التعاطف مع الريفي، أو إعلان قيم مثل التآخي في حضوره. يكشف غومبروفيتش أيضاً الأسئلة المقلقة عن القيم والواجب والرغبات التي تتصارع في ذهن الفرد وروحه، في مشهد هروب الراوي الذي يفترض أنه كان قد قرّر أن يختطف عامل المزرعة لأنّ صديقه الكباس أراد اختطافه ليتآخى معه في المدينة. فتختلط رغبة الراوي، بينما ينفّذ خطة الاختطاف التي تفشل لاحقاً، في اختطاف ابنة العميمة صوفيا. يستخدم غرومبوفيتش ألقاباً ساخرة للدلالة على شخصيات، ومرادفات يختزل بها معاني عدم النضج أو المراهقة التي يعاني منها الجميع. وأترك للقارئ الفرصة لاكتشاف هذا بنفسه في النص، لكنه في الحقيقة واحد من أبرز من قرأت لهم حساً بالسخرية، بأسلوب يُذكّر بنموذجي سرفانتس وشارلي شابلن، في الأدب وفي السينما. إنه يقدم نقده لتفاهات المجتمع البورجوازي وعدم نضجه في شكل ساخر، من دون أن يقدم أي وعظ أو حكمة، ويبدو جلياً أنه قدم نموذجاً بديعاً لشكل النص الملائم لهذه الفكرة، قوامه السخرية والمزاح والهزل واللعب، والتكرار. تكرار الكلمات، إعادة الشخصيات لجمل أو كلمات بعينها، بينما كلما أفرط الكاتب في ذلك كلما ظهرت قوة المأساة التي يسخر منها. من الواضح أيضاً أنه نص متعدد في مستويات لغته، بدا جلياً أنه يريد توضيح فروقات الأسلوب في كلمات المراهقين مع الأساتذة، وبورجوازية طبقة الملاك مع الفلاحين، إضافة إلى ما يبتدعه هو لتأكيد حسّ السخرية. وقد نجحت الترجمة في إظهار هذه الفروق، ما يستدعي توجيه التحية ليس فقط لمترجمة هذا العمل، بل إلى الناشر الذي قدم بالفعل عملاً فريداً كان قد غلفه تراب الإهمال والنسيان للمكتبة العربية.