عندما هبطت طائرتنا في جدة علقت ابنتي بقولها «مطار جدة كأنه منزل»، عندها تأكدت أن تواضع مطار جدة ينتبه إليه حتى الأطفال، فماذا لو أضفنا أن هذا المطار هو بوابة مكة، بوابة بليون وربع مليون مسلم يهبطون فيه لأداء شعيرتي الحج والعمرة، وهي المدينة السياحية الملقبة بعروس البحر الأحمر؟ ثم باتت غريقة السيول ورمزاً فاضحاً لتواطؤ موظفين فاسدين انهكوا بنيتها التحتية التي تدهورت، فباتت شوارعها متسخة، فقيرة السفلتة والتشجير ومرورها غائباً تُقطع إشاراته نهاراً جهاراً، وتفحط فيه سيارة مرسيدس أمام تقاطع كبير ونحن نتفرج. الحدائق النادرة لا يزيّنها سوى ثيل محترق وبضع شجيرات، وشاطئها حجبته جدران أسوار عالية.المجسمات هي المشهد الوحيد الذي بقي شاهداً على المشهد الحجازي الرقيق من فناني جدة ومثقفيها وشعرائها الحجازيين، جدة التي جعلت من شعار «جدة غير» شعاراً حقيقياً. فعلاً جدة غير، لكنها غير بناسها، تستطيع أن تعرف ذلك من أول تعامل مهذب يبدأه معك موظف الجمرك، وموظف الجوازات، السماحة الحجازية، الاخوة التي يظهرها الرجال للنساء، الألقاب التي توضع تأدباً بين الناس، أخي وأخي و«أستاذة» و«دكتورة»، الطابع المسالم والسخي لأّهالي المدن الساحلية، شوق الناس للفرح والانتشار في المقاهي والشوارع والانفتاح على بعضهم البعض. في جدة التقيت بإحدى ضحايا السيول، والمفارقة جعلت هذه الضحية هي زميلتي زينب غاصب، كان التشبيه الذي استعملته زينب كي تصف لي حادثة غرقها هو «تايتنك»، كان وصفاً مختصراً، لكنه مليء بالحركة والصورة والهزل، فتايتنك هي السفينة التي رصدت لها إمكانات هائلة، لكي يصبح غرقها مستحيلاً، لكن هفوة مستهترة فاسدة جعلتها تغرق، حدثتني زينب عن سواعد الناس التي تماسكت في مشهد الغرق، لتشكّل طوق نجاتها، وجهود الشباب المتطوعين لإنقاذ أبناء مدينتهم، قالت لي زينب، كنا نغرق في الشارع. زينب عادت للحياة لكن شعوراً بالبرد لا يزال يسكن أطرافها عجز الأطباء عن علاجه، زينب لا تزال تعيش الغرق في الماء، في لا وعيها، لأنها ربما تخاف أن تغرق من جديد. في ملتقى سعوديات الغد شاهدت نساء جدة، ومثل شبابها الذين قابلتهم في مقهى جسور، قرروا ألا يتركوا جدة وحدها، ففي هذه اللقاءات عبروا بعملهم وفكرهم عن شيء واحد هو انتماء كبير، وصادق لهذا الوطن، السيدة ماجدة أبو راس تقود جمعية أهلية لحماية البيئة، ولمى ولبنى غلاييني تقودان مؤسسة أودك، لتمكين المرأة وتوجيه المبادرات الشابة للعمل بروح ايجابية، شاهدت واستمعت لسيدة صغيرة اسمها مها طاهر تعمل مع مجموعة بدأت من 3 فتيات إلى 700 شاب وشابة في جمعية للعمل الانساني، مها طاهر وهي تعرض صور عملهم في زيارة الحواري الفقيرة، تظن أنك في مدينة أخرى غير السعودية، أناس يعيشون بلا سقف، وبلا ماء، وهم لا يبعدون عن مركز المدينة إلا عشرات الكيلومترات، لكن مبدأ عملهم هو «لا تشتكي، اعمل». هؤلاء الشباب والشابات حملوا شواكيشهم ومساميرهم وأصباغهم، واندمجوا في عملية ترميم البيوت وحمل الأطفال للمستشفيات وتنظيف الشوارع، تقول مها طاهر التي بدأت رحتلها الانسانية من تنزانيا والصومال: «ان أجمل قيمة في الحياة هي العطاء»، أقارن بينها وبين الشباب الذين ذهبوا ليجاهدوا في أفغانستان، ثم عادوا ليفجروا أوطانهم. آثار حناء جدة الباهتة لا تزال ظاهرة في مجسماتها التي تزيّنت بها منذ ثلاثة عقود، لكنها اليوم مثل عروس ترملت، سرق بحرها، وحدائقها، وجلست وحدها تحت الشمس الحارقة. الناس في جده يعلقون آمالاً كبيرة على أميرها خالد الفيصل، ويشيدون بتجربته الناجحة في عسير، وشبابها الرائعون قرّروا أن يبادروا بالأخذ بيد بلادهم وقيادتها، ليكون شعارنا هو «الأمل والعمل». [email protected]