بعد مرور ستة أشهر على إعلان العراق تحرير مدينة الموصل من الإرهابيين، لا تزال الجثث المتحللة موجودة بالقرب من «جامع النوري»، المكان الذي شهد الإطلالة الوحيدة لزعيم تنظيم «داعش» أبو بكر البغدادي قبل ثلاث سنوات. وتُجسد الفجوات الظاهرة على جدران الفنادق الواقعة على أطراف الشطر الغربي من المدينة الشمالية، صورة محزنة عن حجم الدمار الذي خلفته حرب مدمرة استمرت أشهراً طويلة. وعلى رغم نشوة «التحرير» التي عاشها سكان المدينة في العاشر من تموز (يوليو) الماضي، يعاني بعض الذين غامروا بالعودة إلى الأزقة الفارغة، القلق والعوز، إضافة إلى انتشار الحطام المتناثر، ويتحدثون بحذر عن مستقبل يعتبرونه غير مستقر وغير مؤكد. قبل ستة أشهر، استعادت القوات العراقية السيطرة على ثاني أكبر مدينة في العراق بعد حرب دامية استمرت تسعة أشهر ودمرت قلب المدينة التاريخي. وكان معظم سكانها، باستثناء قلّة، نزحوا بفعل قصف طائرات التحالف الدولي وقذائف الإرهابيين. وتؤكد أسما محمد التي قتل والدها وزوجها في غارة جوية، أن تلك الغارات كانت خاطئة وأودت بمدنيين من دون إلحاق أي ضرر بالإرهابيين الذين كانوا يحتلون منازل مجاورة. وتشير في حديث إلى وكالة «فرانس برس» إلى أن «زوجها ووالدها دفنا كغيرهم من الجيران في مقابر بنيت على عجل». وإلى الحي نفسه من المدينة القديمة، عادت عائلة واحدة من العائلات النازحة، هي عائلة أنسام أنور (30 سنة)، التي رجعت قبل أيام قليلة مع زوجها وأطفالهما الخمسة. داخل غرف صغيرة مغطاة بالكلس حول الفناء الداخلي للمنزل، كان البرد قارساً وكل التمديدات الكهربائية وأنابيب المياه مقطوعة، فيما بدت عدادات الكهرباء المعلقة على الحائط محطمة تماماً. ولا يجد الزوج الذي يعمل بأجر يومي، عملاً في الموصل القديمة التي توقفت الحياة فيها تماماً. وتقول أنسام ل «فرانس برس» وهي تزيل الغبار والحطام عن الأرض: «لا يوجد لدينا ماء ولا كهرباء، وأولادي محرومون من المدرسة، حتى رائحة الجثث المتعفنة لا تزال تخنقنا». وفي الزقاق، لا يزال بعض الأثاث الخشبي ملقى في الشارع حيث يغامر عدد قليل من المواطنين بالمرور، إضافة إلى ملابس أفغانية وسترات بجيوب عدة مرمية في المكان، يقول السكان إنها بقايا «ملابس الإرهابيين». وفي مكان مجاور، يقطع أبو قتيبة العطار (59 سنة) الأزقة التي كانت يوماً سوقاً تاريخية مزدحمة. هنا كان متجر والده الذي قضى فيه كل أيامه منذ كان عمره ست سنوات، لكنه دمر في المعارك. ويقول العطار الذي يلفّ رأسه بكوفية ويضع العباءة التقليدية على كتفيه، إنه بدأ أعمال إعادة بناء المتجر على نفقته الخاصة، لأنه بقي في المنزل مكتئباً منذ اندلعت الحرب. ويقول العطار إن «الأمن عاد، ولكن يجب أن يتبعه الاقتصاد»، مؤكداً أن «الجميع، بدءاً من صغار الحرفيين، وصولاً إلى كبار المستثمرين يدعون إلى تغيير جذري في العقلية». ويقول تاجر آخر ل «فرانس برس»: «علينا الآن أن نتعاون مع القوات الأمنية التي حررتنا، وأن ندين كل من يبدو مشبوهاً بدلاً من أن نبقى سلبيين». ويؤكد شرطي طالب بعدم الكشف عن هويته أنه «في الوقت الراهن، يتعاون السكان في شكل كامل، ويخبروننا عندما يرون غرباء في أحيائهم»، آملاً في أن «يستمر الأمر هكذا، وإلا، فإن كل شيء يمكن أن يتحول مرة أخرى، ويمكن أن يبرز داعش جديد». ويرى مظهر عبد القادر (48 سنة) وهو صاحب أحد المتاجر، أن «الظروف التي أدت إلى نشأة داعش وأتاحت له التجنيد في شكل كبير في الموصل، لا تزال قائمة». ويضيف الأب لخمسة أطفال الذي يعود بانتظام لمعاينة منزله المتضرر جراء الرصاص والقذائف في الموصل القديمة: «لا يزال هناك بطالة وظلم، والناس تحت الضغط، ليس لديهم ما يأكلونه. لذلك، من الواضح عندما يوعدون بمئة دولار مقابل وضع قنابل، سيفعلون ذلك». ويقول وهو يقف أمام أنقاض «جامع النوري» الذي أصبح مقبرة للسيارات المحترقة: «إذا أطعمنا الجميع وأوجدنا وظائف للشباب، يمكن أن نكون على يقين بأن جميعهم سيحمون البلاد في شكل أفضل من القوات الأمنية ربما».