لا تزال قضية التراث الشغل الشاغل والمؤرق للباحثين العرب والمسلمين، وعند كل طرح مستجدَ ثمة توقع لإجابات مختلفة. ورغبت كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الإسلامية في مدينة باتنة، عاصمة بلاد الأوراس (الجزائر) (المسماة جامعة الحاج لخضر على اسم المُحسن والمتبرع والمجاهد الكبير) وبالتعاون مع شعبة الفلسفة فيها، في إعادة تفكير «القراءات المعاصرة للتراث: بين التوظيف الأيديولوجي والمقاربات العلمية» خلال يومي 26 و27 نيسان (أبريل) 2011، ضمن إطار فاعليات يوم الفلسفة في الجزائر في نسخته السابعة، الذي يحتفى به في كل سنة دورياً في إحدى جامعاتها الكبرى بمشاركة واسعة من باحثين عرب (هذه المرة من لبنان والمغرب وتونس وسورية) والأساتذة من الجامعات الوطنية كافة، حتى وصل عدد المنتدين الى نحو الأربعين. من اليوم الأول للندوة الدراسية العلمية هذه تبدى في التعليق على الأوراق من جانب بعض الحضور الجزائريين، ذلك النزوع التقليدي الى الدفاع عن الجانب الديني والمعتقدي الإيماني ولا سيَما النص القرآني والنأي به عن المقاربات الحديثة وأدوات العلوم الإنسانية ومنهجياتها، وتعرض الباحث التونسي مصطفى الكيلاني الى نقد شديد من أحد المدرسيَن في كلية الشريعة على ورقته «تأويلية الفكر الإسلامي المعاصر بين المنزعين العرفاني والعقلاني: محمد إقبال وفضل الرحمن نموذجين» في ما يبدو اعتراضاً على موقف هاتين الشخصيتين الإسلاميتين من التراث. وانعكس أيضاً في ورقة الحاج دواق (من جامعة باتنة) في ورقته «نقد طه عبدالرحمن لمنهج الجابري في قراءة التراث»، مناخ «التنافس» الفكري والأكاديمي الذي دار بين عبدالرحمن والمرحوم الجابري. ونسب رئيس الجلسة شوقي مزيَان (من جامعة وهران) الذي يعرف الطرفين معرفة كافية، الخلاف بينهما الى اعتبارات شخصية محضة. والحال، لخصت ورقة أمين الزاوي «من الخوف على التراث الى الخوف منه» حال قطاع كبير من المشتغلين به من الذين حجروا على التراث بعيداً من الضوء والهواء، وشاهده حال الشعر العربي وذلك الدفاع المستميت عن تقليديته في صفة كونه «ديوان العرب» ما حال دون ارتقائه ليلاقي شعر الأمم الأخرى ويعانق الأفق الكوني. لقد وجدنا أنفسنا أمام جيل جديد من الشارحين للجيل الأول الذي انكب على التراث قراءة وتفكيكاً، فكانت أوراق تبسط لمشاريع حسن حنفي ومحمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد وتقرأ في رؤى طه عبدالرحمن وعبدالله العروي. وفحص علي حمية (من الجامعة اللبنانية) رؤية ناصيف نصار المعاصرة للتراث، وكان لمحمد أركون النصيب الأكبر من الدرس. والى الإضاءة على مساهمات هؤلاء الرواد كانت ثمة جرأة واضحة في مساءلتهم ونقد أعمالهم وتتبع سقطاتهم، كما في مقاربة فارح مسرحي (من جامعة باتنة): «مأزق العلمية في قراءة أركون للتراث الإسلامي»، وقراءة جويدة جاري (من جامعة الجزائر) لحسن حنفي: «قراءة تحليلية نقدية في مشروع علم الإستغراب». وثمة مداخلة لافتة استخدمت الإحصاء من رشيد الحاج صالح (من جامعة الفرات – سورية) حاول فيها «تفكيك الحضور المعاصر لتراث عصر الخراب» (والتعبير الأخير لإبن خلدون) ويقصد الكتب التراثية الأكثر قراءة في وقتنا وهي تتراوح بين كتب تفسير الأحلام والرؤى وكتب التصوف، في ما يشبه تلك الحال التاريخية التي عاينها كاتب «المقدمة». وكان لكاتب هذه السطور مداخلة تناولت «اليسار الثقافي العربي: مقولتا الثورة والمشاع»، بدأ فيها من رهانات الحاضر على التراث، وما عده محمود أمين العالم «تنازعاً على الحاضر وعلى امتلاكه» وتحوُل القضية الى مسألة سياسية أيديولوجية وواحدة من أهم «القضايا الثقافية» منذ السبعينات من القرن العشرين. بحيث توزعت الخريطة الفكرية وفاقاً للموقف من التراث: فكان الموقف السلفي والموقف الحداثي والموقف التوفيقي بينهما. ووجهت الفكرويات الكبرى بعض الأبحاث وجهة «مادية» كان رائدها بندلي الجوزي «متفرداً»، فنبش في الحركات الفكرية وفي الحركات الثورية (ثورة الزنج وحركة القرامطة) واهتم فيهما بالجانبين الاقتصادي والاجتماعي. وتابعه طيب تيزيني في منهجه وكذلك حسين مروة، لكنهما أرادا تثمير قراءتهما في مشروع حركة التحرر الوطني في ربط بين ثوريتها و «ثورية الموقف من التراث» كما عبَر صاحب «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية». وتقدم عليهما، توفيق سلوم نزيل موسكو، في نظرته الماركسية، فرأى في التمسك بالتراث الديني نمطاً من مواجهة المستعمر وأن التراث لا يقف عائقاً أمام التطور، وهو ما راود أحمد صادق سعد، فسعى لتوظيف التراث في خدمة التنمية، بوصفه «مجموعة من الخبرات التاريخية التي اكتسبها المجتمع في شتى نواحي الحياة والنشاط» وهو بالتالي جزء من الحاضر. على رغم التقاء معظم الآراء على أن دراسة التراث منذ السبعينات من القرن العشرين دخلت بقوة في «إطار النشاط المعرفي للباحثين والمفكرين التقدميين والماركسيين العرب...، بل وفي برامج عدد من أحزاب اليسار»، وأضحت قضية التراث مثابة سلاح أيديولوجي وحقلاً للصرع الطبقي، إلا أن تفارقاً بدا واضحاً بين اليسار الثقافي العربي وبين اليسار نفسه. فالتتابع الزمني كاف وحده لبيان أن الهم المعرفي لا يتطابق مع ما أخذ شكل مشاريع فكرية غائية، ولا ينفي ذلك كون الحركة اليسارية العربية جزء من الحركة الثقافية ككل. ويبدو صائباً ما قرره، الباحث الفلسطيني فيصل دراج، من أن المجتمع العربي منذ مطلع القرن العشرين الفائت والى ستيناته كان في أجزاء كبيرة منه «مجتمعاً يسارياً»، والأمر يشمل الشأن الثقافي. فالبعد الثقافي كان أبرز ومتقدماً بأشواط على الإنهمام السياسي والسجال الحزبي، وإن كان رأي دراج «أن اليسار العربي في وجوهه المختلفة أتى من التنوير ومجتمعية السياسة والثقافة. إذ جاء التنوير بمفهوم المقارنة بين ما استجد وتقادم وبين الأنا والآخر وبين الماضي والمستقبل» وهو يوسع من تعريفه وينظر اليه على أنه «مشروع وطني نقدي وهويَة غير مكتملة وموروث وسيرورة، لها شروطها، ترهن الهوية والموروث». ولا يغدو غريباً أن يسم محمد د كروب، صاحب «مستقبل الثقافة في مصر» طه حسين باليسارية، بسبب من مواقفه العقلانية والتنويرية، ولا سيَما على صفحات مجلة «الكاتب المصري»، وعلينا ألا نغفل أن كاتب «الأيام» اهتم بحركات الاحتجاج، فكتب في المجلة المذكورة دراسته «ثورتان» عام 1946 (ويقصد ثورة الزنج وثورة سبرتاكوس). وبدوره جهد محمد عمارة في إبراز التيار الثوري في الإسلام في كتابه «مسلمون ثوار»: (أبو ذر الغفاري، غيلان الدمشقي أبو الوليد ابن رشد، العز بن سلاَم، جمال الدين الأفغاني، عبدالرحمن الكواكبي، عبدالحميد بن باديس)، وكذا الأمر عند محمد أحمد خلف الله، واهتم كل من جانبه بالمعتزلة «أهل العدل والتوحيد». والحال، تعددت موارد التراث وتنوعت قراءاته، فمنهم من ابتغى منه الإصلاح والتجديد (مثل حسن حنفي)، ومنهم من بحث فيه عن العقلانية والثورة (مثل حسين مروة والطيب تيزيني)، ومنهم من أعمل التشريح والتحليل والنقد (مثل محمد أركون ومحمد عابد الجابري). وفي أحيان كثيرة طغى التوظيف الأيديولوجي على حساب المضمون المعرفي، فبات لكل طرف «تراثه»، يستند اليه ويحتمي بظلاله. وقد وجد الكاتب الجزائري أمين الزاوي إن العلاقة بالتراث تشبه علاقة الرجل بظله، وفي بلادنا المشرقية قد يكون ظل الرجل ثقيلاً عليه. غير أن الإنهمام بالتراث يبقى واجباً، ولا ننسى أنه جزء من تراث الإنسانية وهو دليلنا ومرشدنا الى المشاركة الحضارية الواسعة فيها والى حقنا كأمم وشعوب في الاستفادة من ثمرات العولمة ولذائذها من دون منة من أحد.