-1- أحاول منذ بدأت في نشر قراءاتي النقدية أن أهرب من استخدام أفعال التفضيل: أكرم، وأفضل، وأجمل، وأشعر...، لما تتصف به هذه الصفة في - معظم الأحيان – من مبالغات تهدد الحد الأدنى من الموضوعية عند تناول الإبداع الأدبي في شتى تجلياته، لكن ذلك الحرص يتلاشى معي عندما يغلبني الإعجاب بعمل أدبي ما فأعمد إلى استخدام هذا النوع من الأفعال مسبوقة بحرف الجر «من». مثلما حدث لي عند ظهور ديوان الشاعر السعودي عبدالله الصيخان «هواجس في طقس الوطن» في طبعته الأولى عن دار الآداب (بيروت)، فقد وضعني في حالة من الاندهاش جعلتني تحت تأثير شاعريته الفريدة، أقول هذا من أفضل ما قرأت من شعر يبدعه الشعراء الشبان الحداثيون في المملكة العربية السعودية. وأجزم أنني كنت موضوعياً في ذلك الإعجاب وصادقاً في التعبير عن إعجابي باستخدام فعل التفضيل مع هذا العمل البديع الذي يعطر صحراء الجزيرة بروائح شعر يختلف عما عهدته. ويسعى إلى أن يُعبر عن زمنه المتغير. واليوم وبعد عشرين عاماً من ظهور هذا الديوان في طبعته الأولى أعود إلى قراءته مجدداً في طبعته الجديدة (دار الانتشار العربي، بيروت) فأجدني مغموراً بالشعور نفسه والإحساس المستمر باخضرار الكلمات وقدرتها على السفر عبر أزمنة أطول من دون أن تفقد شيئاً من جماليتها وإيحائها، وذلك هو شأن الشعر الحقيقي الذي يتجاوز كل ما له علاقة بالوقت والمناسبة حيث يظل جديداً ومثيراً بما يمتلكه من قدرات ذاتية تقاوم الزمن ومتغيراته بكل ما اختزنته الكلمات من جمرات لا تخبو: «أصعد يا حبة قلبي، أصعد/ أصعد كي تنفض عن عينيك غبارهما فترى/ وتماسك إن كنت ضعيفاً، ساقك،/ وذراعاك تمدانك بالعزم ووجهك، ينضح بالماء إذا ما/ أصبح بين الماء وبينك قافلة من نوق/ وتماسك حين ترى./ سترى ما لا عينٌ نظرت، ما لا أذن سمعت/ ولم يوصف في الكتب المنسوخة عن عاشر جدّ.../ سترى ناساً يقتتلون على ماءٍ.../ وأناساً يقتتلون على طرق تفضي بالناس/ إلى كرسي وزبرجد» (ص 7). هذا صوت مختلف بكل ما في الكلمة من معنى إيجابي للاختلاف، لغة طازجة وصور مبتكرة. وصاحب هذا الصوت الشعري الجميل لا يشبه أحداً من شعراء المملكة والخليج، ولا يحاكي أياً من الشعراء العرب في أي قطر عربي آخر، فهو يكتب نفسه بلغته كما يكتب لغته الخاصة بنفسه، ويقدم الواقعي في إطار الرمزي وينسج نصوصه القائمة على نظام التفعيلة الهادئة بمستوى عال من الشعرية وجمالية التكوين مع تفاعل صادق وعفوي مع واقعه من دون أن يقع في فخ المباشرة التي تغوي عدداً من الشعراء الذين يرغبون في توصيل أوجاعهم وأوجاع الآخرين من أبناء أمتهم الرازحة تحت وطأة هموم كثيرة: «سترى خيلاً ليس لها أعناق، وسيوفاً ليس لها/ أغماد، ودماً ينثال ليشرب منه المرضى/ والمقهورون وأصحاب الفاقة/ والموهوبون عطايا الرب/ كل الناس عطاش/ فاصعد يا حبة قلبي، أصعد» (ص 8). -2- يستطيع القارئ أن يكتشف ما تنطوي عليه القصيدة الأولى في ديوان عبدالله الصيخان في بنيتها من صور مدهشة ولغة مبهرة. وهي تشكل حضوراً متفوقاً ومترعاً بالعميق والجميل من الشعر، وهذه الإشارة لا تنتقص من بقية قصائد الديوان التي تشكل بدورها حالة استثنائية في الأداء الشعري الجديد. ولعل من أهم ما تمتاز به القصيدة الأولى عن سائر قصائد الديوان احتفاؤها بالتفاصيل الصغيرة التي تنمُّ عن حركة تصاعدية يزيدها توهجاً انتقاء لغتها بعناية فائقة وتكرار اللازمة المتمثلة في الفعل «اصعد» وما يوحي به من تمسك بأهمية الصعود ثم ما يرافقه من إيحاء شفاف وعوالم مشحونة بأمل التحول والتغيير والرغبة في استيعاب مستجدات الحياة الجديدة دونما خوف أو تردد: «فاصعد يا حبة قلبي، أصعد/ وتوسد صوتي حين أناديك لتصعد/ اخترتك أنت/ لست الظاهر... لست الساخر/ اصعد كي تفتح عينيك على الصالح والطالح والفاتح» (ص 8). ليس من الضروري حين تكتب شعراً حديثاً أن تكون غامضاً أو تعمد إلى الإغراب، فالحداثة ليست ألغازاً ولا تعمية، هكذا تراءت للشعراء المبدعين الذين وجدوها في العادي والمألوف من قراءة للأشياء وفي الاقتراب الحميم من تفاصيل الحياة اليومية، وهكذا استوعبها الشاعر عبدالله الصيخان في ديوانه هذا، ونادراً ما نتوقف معه عند عبارة شاطحة أو مفارقة لغوية خارجة عن موقعها الطبيعي مهما جنح التخييل بالشاعر وذهبت به الرغبة في الإغراب ونستطيع أن نلمس ذلك في كل قصائد الديوان بلا استثناء: «هل كان أحمد ينوي الذهاب بعيداً من الحلم/ تاركاً سره العاطفي معي/ نحو حضن الغلاه/ وهل كان أحمد لا يتساقط في وردنا/ ويحب الحياة/ ترى/ أي شيء قراه/ وأي فتاة/ نهضت من ملامحة ذاهله» (ص 56). شيء آخر يلفت الانتباه في ديوان الصيخان وهو تحرره من الفخامة اللغوية ودورها في توريط الشاعر وتحويله إلى كاتب بيانات بلاغية إنشائية مما يخرج بالشعر عن غايته الأسمى ويحصر الشاعر في مهمة أساسية مستديمة تتمثل في انفجارات لغوية متعالية على الكينونة الشعرية الحميمة والتلقائية. صحيح أن الشعر في أحد تعريفاته الموجزة لغة، لكنها اللغة التي ينسج منها الشاعر شعراً يفاجئنا بما يطرحه من أسئلة وما يقترحه من صيغ وأساليب: «قال الشيخ الواقف وسط الحلبة/ لم لا نقطع أصل العشق فننجو/ هذي شجرته المزروعة في درب القرية/ قصوها عن آخر جذر/ حتى لا تخرج ليلى أخرى/ كي تستوطن صدر رجل» (ص 72). وإذا كانت لكل إنسان منا هواجسه تجاه نفسه والآخرين، وتجاه الوطن بكل ما فيه من قضايا وأحلام، فإن هواجس الشاعر عبدالله الصيخان أوسع من أن تستوعبها قصيدة أو يحدها عمل شعري مهما صفت لغته وشفّت رموزه واستعاراته، ويكفي أن الشاعر عبدالله الصيخان قد نجح في أن يكون في منجزه الشعري هو نفسه في احتفائه بالوطن والناس والأمكنة وبما حملته قصائده في هذا الديوان من شحنة شعرية عالية.