تتردد على الأسماع كلمة «ديموقراطية» وفي الإعلام العربي اليوم باتت هذه الجملة «ثيمة» لكل الثورات التي تجري. ولو أردنا أن نبحث في المعنى الذي يمر على ذهن الناطق العربي مطالباً ب«الديموقراطية»؛ لوجدنا أن فهمه لها لا يتجاوز المعنى السطحي لها، حيث تأتي الديموقراطية بشكل مبسط كنقيضٍ للاستبداد. وهو فهم سطحي يرسخ «إشكالية الفهم» لمعنى «الديموقراطية». كان الفيلسوف كارل بوبر يحذر من «الفهم الشائع للديموقراطية»، نقرأ تفصيل ذلك في كتاب «روني بوفريس» الذي خصصه عن بوبر وعنونه ب«العقلانية النقدية عند كارل بوبر» يكتب:«أعاد بوبر التأكيد من جديد في حوارٍ أجراه معه بوداون سنة 1989 على عداوته الصميمية حيال المفهوم الشائع للديموقراطية، لا تشكل هذه الأخيرة بالنسبة إليه مثالاً مطلقاً يجسد ويؤسس سيادة الشعب، إنها قبل كل شيء منهجية». إنهم يسطّحون الديموقراطية حين يتعاملون معها بمعزلٍ عن متطلباتها الثقافية المرتبطة بنمو المجتمع الثقافي والشعور بإلحاح ذاتي يحفزه على اجتياز مرحلة الاستبداد إلى الديموقراطية، وهذه تحتاج إلى جهد ثقافي كبير؛ الكارثة أن الذين يطالبون بالديموقراطية ليست لديهم المقومات الأساسية لاتخاذها منهجاً، ذلك أن الديموقراطية مرتبطة تلقائياً بإتاحة الواقع للخيارات البشرية في الدين والعبادة، وفي كل ما يمسّ عيش الآخرين، لا يستنكف بعض المتطرفين وعبّاد العنف من المطالبة بالديموقراطية حتى يخلوا له الجو فيسطو على البلد بكامله قاطعاً رؤوس المخالفين. لهذا كان بوبر يقول:«من الضروري حماية الديموقراطية من غير الديموقراطيين». إن الذي يجري في العالم العربي حالة استثنائية؛ غير أن الوهج الذي كانت تأخذه في البدء مع أحداث تونس لم يعد كذلك بعد أن انتشرت الدماء والأشلاء، إنها حالة غير قابلة للخيارات، إنه شكل من أشكال فلتان التاريخ، بعض الأحداث مثل الأفكار تبدأ ثم سرعان ما تنفلت وتكون عصيّة على القبض والسيطرة، إنها الأحداث التي يصعب أن تفهم في نفس اللحظة، لكن حين يحنطها التاريخ بوصفها جزءاً منه يمكن للباحث رؤيتها والتأمل بها، حتى «المشهدية البصرية» التي يطرحها الإعلام أثرت على الناس في حياتهم ونفسياتهم ومفاصل عيشهم، إنها الأحداث الخاضّة الكبيرة التي تحتاج إلى طول تأمل، فزوال الاستبداد شيء، ومجيء الديموقراطية شيء آخر؛ ليس بالضرورة أن زوال نظامٍ ما، يعني مجيء نظام آخر أفضل منه. كارل بوبر يقول:«يخلق الإنسان نظريات وأفكار لا يمكنها أن تظهر بدونه، لكن ما إن يخلقها حتى يفقد السيطرة عليها، يلاقيها في كثافتها ويصطدم معها مما يعني قبل كل شيء أنه لا يفهمها». الأحداث الأخيرة جاءت الأحداث قريبةً من هذا التوصيف، حالة الفلتان السائرة بلا حدود. كل تلك الأحداث تطمح إلى تأسيس «مجتمع ديموقراطي» في العالم العربي، كل المتظاهرين يتغنون بالديموقراطية، حتى الذين كانوا-وربما لازالوا- يكفّرون دعاة الديموقراطية اتخذوا من هذا المفهوم خنجراً لطعن خصومهم السياسيين ليتحالفوا مع من رأوهم في زمنٍ مضى «شياطين العلمانية» من أجل الوصول إلى السلطة، تلك هي اللُعبة! إن متطلبات الديموقراطية تتعارض مبدئياً مع الأفكار التي تحتل الكثير من الأدمغة العربية، يكتب جورج طرابيشي: «إن المطلب الديموقراطي الأول يمكن أن يأخذ – بحسب التقليد الذي بدأه توكفيل واستكمله لويس ديمون- الصيغة التالية:إحلال إنسان المساواة، محل إنسان التراتب الهرمي، ولكن المساواة، كيما تكون ديموقراطية، لا بد أن تعني حق الفرد في اختيار وجوده وتسييره». بمعنىً أوضح؛ فإن الديموقراطية حمولة من الأفكار والمتطلبات التي لا يمكن أن تعطى على طريقة «الوصفات» بل هي شروط تتلاقى مع بدء عملية التشجيع على الحرية والنقد ومراجعة الموروث والتخلص من الأغلال التي ناءت بها الرؤوس، إنها ليست مجرد صناديق وستائر، بل هي «ثقافة» تؤسس لواقع أقل سوءاً وخطراً! [email protected]