أبى الإيرانيون أن ينتهي عام 2017 من دون أن ينتفضوا ضد نظام الملالي، فانطلقت تظاهرت الاحتجاج من مدينة مشهد لتعمّ بعد أيام قليلة معظم المدن والبلدات الإيرانية، التي شهدت مشاركة واسعة من قطاعات الشباب ومن العمال والمسحوقين. ولم تقتصر شعارات المحتجين على رفض الفساد المستشري في نظام الملالي الثيوقراطي الديكتاتوري، بل طالبوا بأن يرحل الديكتاتور، وأن يترك الملالي وعلى رأسهم المرشد الأعلى السلطة، وأظهروا أن حراكهم ضد النظام بمختلف مكوناته المتشددة والمعتدلة والإصلاحية، ويحذوهم أمل بأن تتحرر بلادهم من هذا النظام الذي سبق أن قُمِع بوحشية ما عرف باسم «الثورة الخضراء» في 2019. لا أحد يستطيع التكهن بما سيؤول إليه الحراك الاحتجاجي العارم، لكننا نلمس جذرية مطالب الحراك وتوسُّعه وامتداده، مقابل عدم استعداد نظام الملالي لتقديم أي تنازلات تذكر لهذه الحركة الاحتجاجية، حيث أنهم أوجدوا أجهزة القمع كالباسيج والحرس الثوري وأجهزة الأمن لتكون جاهزة لقمع مثل هذا الحراك وسحقه بالقوة المفرطة. ولعل الانتفاضة الشعبية الإيرانية الحالية مختلفة تماماً عن انتفاضة 2009، لكونها تعلن عن بدايات «نهاية عالم ما» في إيران، وانحطاط مرحلة نظام الملالي بأكملها وأفول مقولاتها، ذلك أن ما يحدث هو احتجاج ورفض من لدن جماعات الشباب والشغيلة والفئات المسحوقة، على ممارسات وسياسات نظام الملالي، وعلى الأزمة الاجتماعية العميقة والبطالة المقيمة، وتعبير عن انحطاط النموذج الذي قدمه الملالي، ولعبوا فيه على وتر المشاعر القومية واستعادة مجد بني فارس الإمبراطوري بلبوس طائفي، حيث أن ما يجري في معظم المدن الإيرانية أظهر مدى احتقان كتلة شعبية هائلة، مأزومة وقلقة. كتلة لم تجد أي تعبير سياسي يمكنه أن يفتح لها في الفضاء أفقاً، ويمنح مشاركتها في الحياة العامة معنى وتأثيراً، ويدمجها في نظام الملالي المستبد. ويخطئ من يظن أن الحراك الاحتجاجي في إيران اليوم مشابه لذاك الذي حصل إبان الثورة الخضراء، ذلك أن أهم ما يميز الاحتجاجات اليوم أن لا دور لمن يعرفون بالإصلاحيين في هذا الحراك الشعبي، إذ كان المحتجون في عام 2009 غاضبين من ممارسات تيار المحافظين، وتزويره الانتخابات، وكان الصراع على السلطة منحصراً بين الإصلاحيين والمحافظين، أما الحراك الحالي فهو موجّه ضد مرحلة بأكملها، ليس فقط ضد سياسات النظام الاقتصادية، بل ضد النظام السياسي، وعلى رأسه مرشد الملالي علي خامنئي وزعيم تيار الاعتدال حسن روحاني، الأمر الذي جسده تمزيق وحرق صورهم في التظاهرات الاحتجاجية الأولى ومطالبتهم بالرحيل عن السلطة. وإن كان انطلاق التظاهرات بدأ من مدينة مشهد، معقل نظام الملالي، ومدينة الحج الشيعي، ثم انتقلت إلى قم، المدينة التي تحظى بقداسة خاصة في إيران، إلا أن اللافت هو أن المحتجين رفعوا شعارات مثل «دعوا سورية وشأنها، فكّروا بنا»، و «لا نريد جمهورية إسلامية»، و «الموت للديكتاتور»، و «الموت للحرس الثوري»، ولم يخفوا حنينهم إلى عهد الشاه الأوتوقراطي. كل ذلك لا تنحصر أسبابه المباشرة في خسارة أكثر من مئة وخمسين ألف عائلة من أهالي مشهد مدخراتها المالية نتيجة مشاريع وهمية (مثل مشروع شانديز السكني)، قام فيها مسؤولون في نظام الملالي بعمليات نصب واحتيال على المواطنين، ولم تتم محاسبتهم أو محاكمتهم، بل إن ما زاد في الطين بلّة إعلان عدد من البنوك إفلاسها في هذه المدينة وسواها من المدن الإيرانية، إضافة إلى توقُّف الرحلات السياحية الدينية بين دول الخليج العربي وإيران، والأدهى هو الارتفاع الأخير في الأسعار الذي زاد من إثقال كاهل المواطن، فيما كان نظام الملالي مشغولاً في التباهي بتطوير القوة النووية وصرف بلايين الدولارات على أذرعه الأخطبوطية الميليشيوية في البلدان العربية، حيث ينفق نظام الملالي- وفق بعض التقارير- على ميليشيات «حزب الله» في لبنان من بليون إلى بليوني دولار سنوياً، خصوصاً بعد توسيع عملياته العسكرية في سورية، وفي العراق تجاوز الإنفاق الإيراني على الميليشيات المذهبية مئات ملايين الدولارات، أما حجم الأموال الإيرانية التي أرسلت إلى ميليشيات الحوثي في اليمن فبلغت أكثر من 25 مليون دولار سنوياً منذ عام 2010، فيما يقدّر حجم الإنفاق الإيراني في سورية بين 15 و25 بليون دولار خلال معركة الدفاع عن نظام الأسد المستبد المستمرة منذ أكثر من ست سنوات. والهدف من ذلك هو سعي نظام الملالي إلى رسم خريطة جديدة للمنطقة تخدم أجندته المذهبية القائمة على تصدير الثورة، وذلك على حساب حياة الشعب الإيراني ولقمة عيشه، بصفته الطرف الوحيد الذي يدفع الفاتورة كاملة، الأمر الذي جعل هذه الأسباب الموضوعية توفر بيئة جاهزة لأي حراك شعبي ضد ممارسات نظام الملالي وسياساته. ولعل أهم ما يميز الحركة الاحتجاجية في أيامنا هذه عن الثورة الخضراء في عام 2009، عدم اعتمادها على المراكز المدينية في حراكها الثوري، بعكس الثورة الخضراء التي كانت متركّزة في المدن، مثل طهران وشيراز والمدن الفارسية الأخرى، وذلك على حساب تهميش الأطراف لأسباب قومية ومذهبية. وقد برز كل من مير حسين موسوي ومهدي كروبي كقائدين للثورة الخضراء، وكانت مطالبها تدور حول نتائج الانتخابات، حيث اعترضت على عمليات التزوير التي قام بها المتشددون، بينما تمكّنت الحركة الاحتجاجية الشعبية التي تشهدها حالياً إيران من الانتشار والتوسُّع في مختلف المناطق والمدن، وامتدت أفقياً من الجنوب إلى الشمال ومن الغرب إلى الشرق خلال أيام قليلة، وهي لا تمتلك قيادات سياسية ولا مذهبية أو اثنية، وتجاوزت شعاراتها شعارات الثورة الخضراء، حيث بدأت منذ أيامها الأولى تطالب بتنحي المرشد خامنئي من السلطة. صحيح أن هذه الحركة الاحتجاجية دافعها الرئيس للخروج إلى الشارع هو الظروف الاقتصادية للمواطن الإيراني، لكن علينا أن لا ننسى أن الثورات عموماً في إيران أو في سواها من الدول، كان العامل الاقتصادي أحد أهم محرّكاتها، لكنها غالباً لا تتوقف عنده بل تتجاوزه إلى الاجتماع والسياسة، وتسعى إلى تغيير النظام السياسي برمته. سعى نظام الملالي إلى القبض على مفاصل الحكم والدولة في إيران بمختلف الوسائل القمعية والترهيبية، واستند في ذلك إلى العصبية المذهبية وبراثن لوثة من الشوفينية القومية المنقرضة، بعد أن استبدت القوة والغطرسة من أجل بسط مشروع الهيمنة على المشرق العربي والخليج، وإعادة بناء مجد الإمبراطورية الفارسية، القائمة على استدعاء نزعات ثأرية من الماضي وأمجاده الغابرة، خصوصاً بعد أن سادت مشاعر الإحباط لدى غالبية الإيرانيين، بعد تردي أوضاعهم المعيشية. لم يدرك نظام الملالي أن الفئات المسحوقة، التي تقود الاحتجاجات في المدن والمناطق، لن تعيش وتحيا على مخدرات المشروع الفارسي ولا على أنيابه النووية والباليستية، لكونها تعاني منذ 1979 من ذلك المزيج المرّ للقمع السياسي والاجتماعي المستند إلى قواعد حكم الملالي، وبالتالي فهي ستمضي بعيداً في حراكها الاحتجاجي من أجل الأفضل، ولن يجدي القمع والترهيب في كبت حراكها، فليس لديها أي قيادة سياسية مركزية حتى تتمكن أجهزة القمع من تصفيتها أو اعتقالها، كما ليس لديها ما تخسره، ومستعدة للتصعيد والدخول في مواجهات دامية مع الحرس والباسيج وأجهزة الأمن، من أجل تحقيق مطالبها العادلة، لذلك يبرز السؤال عن المدى الذي ستؤول إليه الأوضاع في إيران في المدى المنظور، وما مآلات الأوضاع التي ستبقى مفتوحة على كل الاحتمالات، خصوصاً أن تاريخ نظام الملالي المستمر لأكثر من أربعة عقود من القمع الوحشي يشير إلى أن التغيير لن يأتي سهلاً، ولا سلمياً. * كاتب سوري مقيم في تركيا