«آنا كريستى» واحدة من مسرحيات الأميركي يوجين أونيل، تدور أحداثها في أجواء عالمه الأثير، عالم البحر والبحَّارة، الذي يطل من خلاله على أعماق النفس البشرية، مستفيداً – كما في مسرحياته كافة - من علم النفس التحليلي الذي أسسه معاصره سيغموند فرويد. وهي المسرحية التي أعيد تقديمها على خشبة «مسرح الطليعة» في القاهرة في ترجمة جديدة للكاتب أسامة نور الدين، وإخراج مميّز للمخرج الشاب أحمد رجب. وقبل الدخول في قراءة العرض الذي لعب بطولته سعيد عبد الغني، نادية شكري، مجدي رشوان ونهاد سعيد، يُشار إلى خطأ أولي كاد بتكراره في المسرح المصري أن يصبح من المسلمات، بينما هو في حقيقته فعل اغتيال لحق أصيل من حقوق المؤلف، ونقصد به هنا ذلك الادعاء المسمى ب «الإعداد». فكيف يستقيم الإعداد للمسرح عن نص مسرحي؟ فالإعداد كما هو معروف هو إعادة الصياغة المسرحية عن وسيط مختلف، كالرواية أو قصيدة الشعر أو السيرة الذاتية أو غيرها من الأشكال الابداعية. أما تكثيف نص مسرحي ما، عبر الحذف، أو استبدال مشاهد بتابلوات تعبيرية، فهي أمور تدخل مباشرة ضمن مهمات العملية الإخراجية. ولا بد أن تتم بحذر شديد مؤسس على وعي تام بخصوصية النص الذي يتناوله المخرج. وهنا في عرض «آنا كريستي» سيزداد حجم الخطأ ليقترب من الخطيئة، حينما نقرأ في البرنامج المطبوع وعلى الملصق الترويجي أن المعدّ هو المترجم نفسه، وهو ما يعتبر اعترافاً صريحاً منه بخيانة الأمانة التي تفرضها عليه عملية الترجمة! تدور أحداث المسرحية على سطح سفينة شحن صغيرة يمتلكها البحار العجوز كريس، وهو المكان الذي حرص مصمم الديكور عمرو شعيب على نقل تفاصيله بتلخيص وجمال يساهمان في انعكاس الحال النفسية للشخصيات، متيحاً في الوقت نفسه فرصة للمتلقي ليقارن بين ضخامة وسيطرة المركب وضآلة وبؤس الشخصيات. بل إن المخرج – ولا نقول المعد – يضيف شخصية موسيقي عجوز يطالعنا فور انفراج الستار ويتجول صامتاً في المكان يعزف على قيثارته أنغاماً تنضح شجناً، وكأنه الراوي الصامت لأحداث المسرحية، أو كأن تلك الأحداث باتت أغنية حزينة يتناقلها البحارة جيلاً بعد جيل. وهو ما سيؤكده ظهوره المتكرر بين المشاهد كمن يعلق عزفاً على أحداث شاهدناها في المسرحية. تشابه الشخصيات أغنى العقدة في البداية نتعرف إلى كريس البحار العجوز الماجن، عبر حوار ضاحك مع محظيته مارتا، وسريعاً ينزلق الحوار بتكثيف اشتهر به يوجين أونيل إلى مناطق خاصة، لنتعرف على حلم مارتا المجهض في أن تكون أماً لفتاة تربيها وحدها وتستعيض بها عن خيانة زوج هو بالضرورة بحار تركهما ورحل إلى حيث حلم لن يتحقق أبداً. حلم مارتا فتاة الليل، يتشابك مع جرح كريس البحار الذي ترك زوجة وابنة لم تتجاوز الخامسة بحثاً عن سراب في بحر التهم رجال عائلته جميعاً. لكنه يواسي نفسه دوماً بأن ابنته تربت في مزرعة خالها وسط عائلة ترعاها اهتمت بتعليمها حتى صارت مربية أطفال، كما أخبرته هي في خطاب قديم. نقطة الهجوم على الحدث تأتي سريعاً حين تقرر الابنة مفاجأة أبيها بزيارة لم ينتظرها، وفي اللقاء الأول بينهما تكتشف مارتا أن من تمنتها ابنة لا تعدو أن تكون نسخة مصغرة منها. وهنا ينجح المخرج في الاستفادة من تفاصيل صغيرة تضمنها حوار أونيل المكثف، في الكشف عن مدى التشابه بين مارتا العاهرة العجوز وآنا العاهرة الشابة، في إشارة جديدة ودالة إلى تماهي الشخصيتين. لعبة التشابه هذه لن تقف عند مارتا وآنا، بل تمتد لتطاول بقية الشخصيات، وكأن أونيل يؤكد فكرة اللعنة بمفهومها الإغريقي والتي ستصيب شخصيات مسرحيته بإصرار قدري يتسق وفهمه لمعنى اللا جدوى من تغيير مسار حياة خطتها يد إلهية وأكدتها سمات جينية تتوارثها الأجيال. فها هي آنا تنقذ بحاراً شاباً من الغرق، لتفاجأ بأنه يشبه ابن خالها الأكبر الذي نعرف في ما بعد أنه اغتصبها ورفض الزواج منها، بل وكان سبباً في طردها من بيت الخال، لتجوب وحدها شوارع المدن يتناوب عليها ذئابها ويجبرونها على أن تتحول هي الأخرى إلى ذئبة شوارع. إلا أنها سريعاً ما تكتشف أن بريك الذي أنقذته يتمتع ببراءة طفل. وما أن تقع في حبه حتى يحدثها عن حلمه في أن يشتري سفينة شحن صغيرة ليجوب بها موانئ العالم، مثل أبيها الذي تخلى عنها وعن أمها تحقيقاً لحلم لم يسفر إلا عن سراب. لتصبح جملة: «هل هي مصادفة يا آنا؟» التي تتكرر في نص أونيل ويبرزها المخرج، هي أيقونة هذا العرض الذي يقوم على فكرة التكرار وعلى أن «لا جديد تحت الشمس». لعبة إضاءة ذكية بوعي إخراجي لطبيعة النص، يختار أحمد رجب لممثليه حركة دائرية، تعكس تحليق الشخصيات في فراغ اللا جدوى، مؤكداً هذا الإحساس بمنظومة إضاءة تُقرب عمله من تقنية المونتاج السينمائي، واللقطات القريبة، معتمداً على بؤر إضاءة تحيط بالممثل وتفصله عن باقي الممثلين، ليقترب المشاهد أكثر من أعماق الشخصية المقصودة. بل إن حرص المخرج على أن ينهي مشاهده المتلاحقة بتأجج مفاجئ للإضاءة يعقبه ظلام بطيء على حركة ثابتة للممثلين، هو تأكيد للنهج السينمائي الذي اختاره للتعبير عن نص يبحث في النفوس أكثر مما يهتم بالحدوتة. إلا أن المخرج الشاب – القليل الخبرة – يقع في خطأ التشكك بقدرة متلقيه على الاستيعاب، فيختلق نهاية هي أقرب إلى وسيلة الإيضاح، حين يجعل بؤرة إضاءة تمر على وجه كل شخصية لتكرر جملة قالتها في سياق العمل، وكأنه بذلك يصرخ في المتلقي: «انتبه، هذا ما كنت أقصده من معنى»! لتأتي نهاية العمل وذروته أقل حيوية مما مهَّدت إليه البدايات.