ككل مرّة تعود فيها من أمستردام إلى مدينتك تقف بداية في محطة قطار أمستردام الرئيسية منتظراً القطار الذي سيقلك في رحلة عودتك إلى مدينتك الهولندية الصغيرة لتأخذ من ثم دراجتك التي ركنتها بالقرب من محطة القطار هناك في رحلة قصيرة إلى البيت. في وقفتك القصيرة هذه في محطة قطار أمستردام وأنت تقضم كعكا تركيا بسمسم تشتريه كل مرة من المخبز التركي في وسط أمستردام تروح تفكر في نهارك الذي أمضيته في أمستردام، في رحلة القطار، في الدراجة المركونة هناك، في البيت، في مدينتك، وفي ما تملكه غداً من مواعيد ونشاطات هناك. في كل تفصيل في وقفتك هذه وفي ما تستحضره فيها في ذهنك من صور وأفكار تحسّ أنك شخص آخر غير ذلك الذي أتى إلى هذه البلاد قبل عامين، شخص لم تعد قادراً على تبيّنه، شخص طويت صفحته على أسوار مدينتك الهولندية العتيقة، تحسّ أنك حرّ، بلا خوف ولا قلق لا على ما تفكر ولا على ما تكتب أو تعيش! أنّك إنسان جديد، وهذا الإنسان الجديد الذي أنت عليه الآن لم يخلق بين يديك في ليلة وضحاها، بل تعلمت أن تكونه وتستحقه مع كل خطوة مشيتها في هذه البلاد. فعلى عكس ما يظن كثيرون ليس من السهل أن تتقبل نفسك حرّا أو أن تدرك حقيقة أو كيفية أن تكون كذلك، بخاصة أنّك جئت من تلك البلاد التي لم تعلمك شيئاً كما علمتك أن تخاف من الحريّة، أن تهرب من نفسك التي أنت عليها، أن تدفنها وحريتها كل يوم أكثر حتى تبقى على قيد حياة ما لشخص آخر لا تعرفه لكنه لن يضيع في غياهب سجن ما لنظام مستبد أو زاوية منبوذة لمجتمع لا يرحم. كلما طويت صفحة نفسك القديمة القلقة المستسلمة لسلطات شتى وأقدار لا ترد أكثر، بهرت بإمكاناتك التي تملكها، بقدرتك على الفعل والإبداع، على أن ترى الجمال وتخلقه في كل ما حولك. أنت الذي ظننت دائما أنّك لا تستطيع، أنّك مجرد رقم عادي ككل هذه الأرقام، أنّك لون باهت لن يضيف لهذا العالم أي شيء، ومن الأفضل له أن يمرّ في هذه الحياة هكذا بأقل ضرر ممكن له وللآخرين. لكن ها أنت الآن تبدو لنفسك كما للآخرين كأنّك قوس قزح بألوان تبدأ ولا تنتهي، وهذا لا لشيء إلا لحريتك التي امتلكتها ولصفحة ذلك الإنسان القديم الخائف المستعبد الذي كنته وطويتها. فماذا لو أنّ كل الناس في شرقنا البائس البعيد امتلكوا حريتهم التي تكاتفت أقدار شتى على حرمانهم منها؟ كم من فرص الرضا والإبداع والتميّز ستخلق هناك؟ هناك حيث يتعلم الواحد فقط ألا يطلب من يومه ومن السلطات المختلفة التي تحكمه إلا السلامة! سلامة لا تتوافر له إلا إذا سدد ثمنها الغالي بحريته التي ما أن يخسرها تماما حتى تفقد سلامته كل مبرراتها سوى أن يموت أخيراً بدم بارد لا بدم ساخن يراق برخص وبؤس لا ينصر مظلوماً ولا يردّ غائباً. ما زلت أتذكرني جيداً في بداياتي هنا حين كنت مازلت متردداً في طي صفحة نفسي القديمة حين راح يلح الكثير من أصدقائي الهولنديين عليّ في أن أكون ما أنا عليه، وإلّا فلأعد من حيث جئت إذا! لكن هل كان من السهل على أمثالنا أن يكونوا ما هم عليه حتى في بلاد تقدّس الحرّية كسلوك حياة يومي يعيشه مواطنيها من الصباح إلى المساء؟ لاسيما أننا لم نتعرف الحرية على حقيقتها إلا في كتب وأفكار مهرّبة نقرأها في السرّ، بعد أن حشدت أنظمتنا الحاكمة كل منظومتها التربوية والإعلامية بين المدرسة والجامعة ووسائل الإعلام لربط كلمة الحريّة بكل شيء آخر عدا الحريّة نفسها، ولرصفها فقط مع القضايا الكونية الكبرى والأراضي المحتلة والحروب والشهداء، فنضيّع أنفسنا وحريتنا وقضايانا، فلا نطول من حريتنا شيئاً ونبقى نستذل لسلطاتها المختلفة وتبقى هي وكل منظومة قيمها التي تنافي الحرية شكلاً ومضموناً متسيّدة علينا وعلى حيواتنا إلى الأبد كما تمنت ورددت وألزمتنا أن نردد وراءها طويلاً. واليوم حين تقف ككل مرّة في محطة قطار أمستردام أو حين ترى نفسك الحرّة وما تتمك منه وتعيشه في سلام في عينيك الجديدتين أو في عيون بقية أصدقائك الهولنديين الذين رافقوك في رحلة طي صفحة نفسك القديمة تغصّ لربما في قطعة الكعك التركي الذي تتناوله وتتمنى لو أنّك تجرأت على طي هذه الصفحة قبل زمن طويل، لكنك تبقى ممتناً أنّك حقا طويتها، وأنّك ذاهب لأن تطويها كلّ يوم أكثر.