لم يُعِر الإعلام العربي اهتماماً للمعركة القضائية في شأن «مكتبة غوغل الرقمية»، على رغم أن اسم محرك البحث «غوغل» مألوف عربياً، بل ذاع صيته في سياق «ثورة 25 يناير»، خصوصاً مع التماع اسم وائل غنيم، وهو من كوادر «غوغل»، إلى حدّ أنه ورد في قائمة مجلة «تايم» عن أكثر 100 شخصية مؤثّرة عالمياً، بالتساوي مع جوليان أسانج مؤسس موقع «ويكيليكس» الشهير. والحق أن هذه المعركة تستحق اهتماماً كبيراً. ويجدر بمتابعي الشأن المعلوماتي والمهتمين بديموقراطية المعرفة في العالم العربي، أن يصغوا جيداً لما يدور في محاكم الولاياتالمتحدة حاضراً، خصوصاً هذه المعركة القضائية في شأن «مكتبة غوغل» الرقمية، التي من شأنها أن تمثّل نقطة مفصلية في الصراع الهائل حول حقوق المُلكيّة الفكرية في الأزمنة المعاصرة. بديهي القول إن النُخب المثقفة في الدول العربية تمارس «كسلاً» فكرياً يصل إلى حدّ الغيبوبة، في هذه المسألة. ويظهر الوجه الآخر لهذا «الكسل» المرضي (يشبه الإصابة بمرض ذبابة «تسي تسي») في تبني المقولات الجاهزة للشركات العملاقة في المعلوماتية والموسيقى والكُتُب، على رغم أنها تمثّل أحد أطراف هذا الصراع. صراع على ما ليس موجوداً لنُلقِ نظرة على معركة الكتب التي يسعى «غوغل» لرقمنتها في مكتبته الافتراضية على الإنترنت. تدور هذه المعركة حول كتب نافدة أو أنه لم يتبق منها سوى نسخ قليلة تماماً، أو أنه لم تُعد طباعتها فصارت غير متوافرة في الأسواق! مُجدداً: إنها كتب نافدة. لا يجري الإتجار بها، بل لا تتوافر نسخها كي يجري الإتجار بها. لا أحد يحصل على أي شيء منها حاضراً، ولا تعود بمردود على مؤلفيها ولا على ورثتهم. إذا لم تُحوّل هذه الكتب الى ملفات رقمية على الإنترنت، فلن تصل إلى أي يد! أكثر من ذلك، أن «غوغل» لم يسع إلا لنشر جزء من تلك الكتب النافدة (قرابة 20 في المئة من كل كتاب) ليقرأه الجمهور قبل أن يقرّروا شراء تلك الكُتب. وفي حال الشراء، يحصل المؤلفون والناشرون على حصّتهم، كحال بيع الكتب ورقياً. ويندرج الإطلاع على قسم من الكتاب، وهو ما يشبه تقليب صفحات كتاب على رفّ مكتبة قبل اتخاذ قرار بالشراء، ضمن ما يسمى «الاستعمال العادل» Fair Use قانونياً. وعلى رغم ذلك، أصرّ الناشرون، وهم من يملكون أساساً حقوق الملكية الفكرية، على الحصول على بدل مقابل كُتُب لم تعد موجودة! إذ لا تتجاوز دورة الحياة التجارية لمعظم الأعمال الإبداعية السنتين فعلياً؛ بل تخرج غالبية الكُتب من الطباعة بعد ظهورها بسنة. وعندما يحدث ذلك، يجري الاتجار بالكتب المستعملة خارج إطار حماية قوانين النسخ. وبذا، لا تعود الكتب عملياً تحت سيطرة قوانين المُلكية الإبداعية. ويقتصر التعامل التجاري عملياً على بيع الكتب باعتبارها مستعملة، وهي عملية لا تتضمن النشر، ما يعني أنها حُرّة، على رغم عدم انتقالها قانونياً إلى المُلكية العامة. وربما تشكّل الكلمات السابقة انحيازاً، إذا لم يُضف إليها فوراً أن الوجه الآخر لهذه العملية، هو حصول «غوغل» على ملايين الكتب، ما يجعله قِبلَة للجمهور في عمليات البحث عن المعلومات. بمعنى آخر، يؤدي ثراء المحتوى الذي قد يمتلكه «غوغل»، فيما لو فاز بتلك القضية قضائياً، إلى زيادة تدفق جمهور الإنترنت عليه. ويتضمن الأمر ملمحاً احتكارياً، خصوصاً بالنسبة الى الإعلانات التي تميل صوب المواقع الأكثر شعبية. حتى في الوضع الحاضر، يضع «غوغل» إعلانات في الأقسام التي يعرض فيها مقتطفات مبتسرة من الكتب. والنتيجة؟ لو فاز «غوغل» بالقضية، لنال مكانة تحمل صفة احتكارية في سوق البحث على الإنترنت، وكذلك الحال بالنسبة الى سوق الإعلانات الرقمية في الفضاء الافتراضي للشبكة العنكبوتية. وتعبّر عن الأوجه المتشابكة والمتناقضة لهذه القضية، أشياء كثيرة. فمثلاً، برّر القاضي داني شين قراره بمنع «غوغل» من رقمنة الكتب النافدة، بأن تلك العملية تمنح «غوغل» سيطرة واسعة في سوق البحث، كما أعاد إلى الأذهان أن كتباً كثيرة جرت رقمنتها على يد «غوغل» من دون العودة الى مؤلفيها. وشدّد غاري ريباك، المدير القانوني لتحالف «أوبن بوك ألاينس» Open Book Alliance، على منحى السيطرة على سوق البحث، مشيراً إلى أن هذا الأمر يثير قلقاً ضخماً لدى شركات المعلوماتية المنضوية في هذا التحالف، مثل مايكروسوفت وأمازون. في اتجاه مماثل، ذهبت مجلة «نيويورك بوكس ريفيو»، عبر مقالٍ لمحررها روبرت دارنتون وهو متخصّص في الشأن المعلوماتي، الى القول بأن خسارة «غوغل» هذه القضية تمثّل مكسباً للجمهور لأنها تكبح احتكار الكتب ومحتوياتها في عمليات البحث عن المعلومات. في الاتجاه المعاكس تماماً، أشار الكاتب سكوت تورو، وهو رئيس «نقابة المؤلفين الأميركيين» إلى أن رقمنة الكُتُب النافدة هي فكرة آن أوانها، لأنها تعني الاستفادة من التقنيات الحديثة لإعادة إحياء تلك الكتب وسوقها، إضافة الى أنها الفرصة الوحيدة التي تمكّن الجمهور من الإطلاع عليها. ومن أسوأ ما يفعل الإعلام العربي أنه يقدّم هذه القضية وكأنها بين طرف يريد الحصول على أعمال مؤلّفة بصورة مجانية، وهي فكرة خاطئة كليّاً. إذ يتمحور الصراع فعلياً حول التوصّل إلى صيغة لهذه المُلكيّة تتناسب مع ثورة المعلوماتية والاتصالات، وما تتيحه من تقنيات وأدوات تتعلق بالمعرفة وانتشارها وإعادة إنتاجها. والحق أن هذه المسألة تتضمّن في أحد أوجهها، صراعاً بين الميل لتعميم المعرفة ودعم الإبداع من جهة، وتشدّد الشركات العملاقة في تطبيق مفهوم لحقوق المُلكيّة الفكرية لا يخدم سوى تحقيق أقصى الأرباح لها. ربما لا تكون الصورة بمثل هذا الوضوح، خصوصاً أن مشروع «مكتبة غوغل» ابتدأ كمشروع لدعم المحتوى على الإنترنت عبر إتاحة ملايين الكتب للجمهور. ولكن، ثمة من يعتقد أن هذا المشروع سار في أروقة القضاء 7 سنوات، ليصبح محاولة لصنع المكتبة الأضخم تاريخياً، بمعنى أنها السوق الأضخم للكتب أيضاً. وبقول آخر، ثمة تداخل والتباس بين نشر المعرفة وحرية الإطلاع والحق في الملكية الفكرية، وبين المصالح المتضاربة وأسواقها واحتكاراتها، ما يجعل وضع المسألة في صيغة الصراع من أجل الحرية (أو ضدها)، اختزالاً مُخلاّ لهذا الشأن المعقّد. قوانين كثيرة والمقصود... التمديد في كتابه الشهير «ثقافة حُرّة» (يصدر قريباً عن «مشروع كلمة» في أبو ظبي)، أورد البروفسور الأميركي لورانس ليسيغ مراجعة لتاريخ مدة المُلكية الفكرية في أميركا. وبيّن أنه خلال المئة سنة الأولى من عمر الولاياتالمتحدة، تغيّرت مدّة حق النسخ مرّة وحيدة. ففي 1831، مُدّدت الفترة القصوى لسريان الحماية من 28 الى 42 سنة، لأن الفترة الأولى للحماية رفعت من 14 الى 28 سنة. وخلال السنوات الخمسين التالية من عُمر الجمهورية الأميركية، جرت زيادة تلك المُدّة مرّة أخرى. ففي 1909، مدّد الكونغرس فترة التجديد من 14 الى 28 سنة، ما رفع المدّة القصوى لسريان الحماية الى 56 سنة. ومنذ 1969، مدّد الكونغرس سريان الحماية 11 مرّة خلال أربعين سنة؛ وفي مرتين منها، مدّد الكونغرس مُدّة حماية النسخ مستقبلاً. وأوضح ليسيغ أيضاً أنه في البداية، جرى التمديد للحقوق الموجودة فعلياً، ولفترات قصيرة زمنياً بحيث لم تزد على سنة أو سنتين في كل تمديد. وفي 1976، مدّد الكونغرس حقوق النسخ الموجودة فعلياً كلها، بإضافة 19 سنة الى فتراتها الأصلية. وفي 1998، مدّد الكونغرس فترة الحماية للحقوق الموجودة والمستقبلية، مُضيفاً إليها عشرين سنة. ويعني ذلك أنه خلال العشرين سنة التي تلي عام 1998، ستنتقل مليون براءة اختراع الى المُلكية العامة، لكن عدد الأعمال المتاحة للنسخ في القطاع العام خلال الفترة عينها هي... صفر! وأوضح ليسيغ أيضاً أن آثار هذه التمديدات المتوالية تفاقمت بسبب تغيّر «صغير» في قانون حقوق النسخ. وذكّر بأن واضعي الدستور أرسوا نظاماً لحقوق النسخ يتألّف من مرحلتين، إذ طلبوا من مالكي حقوق النسخ تجديد تلك الحقوق، بعد انتهاء فترتها الأولى. ويعني ذلك الطلب أن الأعمال التي لا تعود محتاجة للحماية، ستنتقل بسرعة الى النطاق العام. وتستمر الأعمال التي تحتفظ ببعض الفائدة اقتصادياً، في البقاء خارج النطاق العام. ونبّه ليسيغ إلى أن الولاياتالمتحدة تخلّت عن هذا النظام المعقول في 1976. وصار لكل الأعمال التي صنعت بعد 1978، فترة وحيدة هي المُدّة القصوى للحماية. وبالنسبة الى المؤلفين «الطبيعيين»، جُعلت تلك المدّة مساوية لعمرهم، مع إضافة خمسين سنة بعد الوفاة. وأما بالنسبة الى الشركات، فقُدّرت تلك المُدّة ب75 سنة. وفي 1992، قرّر الكونغرس حظر التجديد بالنسبة الى الأعمال التي صنعت قبل عام 1978 كافة، مقرراً أن الأعمال التي ما زالت تحظى بالحماية، يجب أن تُشمل بالمدة القصوى من تلك الحماية. وبعد عام 1998، صارت تلك الفترة 95 سنة، أي ما يقارب قرناً من الزمان! هل يبدو منطقياً القبول بعدم إطلاع الجمهور إلا على ما فات من المعرفة، بل ما مضت عليه قرابة مئة سنة؟ هل يتجاوب ذلك مع معطيات ثورة المعلومات والاتصالات ومنطقها وثقافتها؟ ألا يفتح هذا الأمر أفقاً مختلفاً لمناقشة ظاهرة قراصنة الكومبيوتر «هاكرز» الذين لا يرون في أنفسهم سوى محاربين من أجل الحرية؟ أسئلة تحتاج إلى مزيد من النقاش. كرونولوجيا وجيزة لمنع المعرفة غير المتقادمة! 2005: رفع «تحالف المؤلفين الأميركيين» و»رابطة الناشرين الأميركيين» دعوى قضائية ضد محرك البحث «غوغل» تتهمه بالتعدي على حقوقهم في المُلكية الفكرية. ويتعلق الأمر بسعي «غوغل» لرقمنة كتب نادرة أو نافدة أو غير متوافرة في السوق الأميركية، لكنها لم تتحوّل بعد إلى مُلكية عامة، بمعنى أن مدة حقوق المُلكية الفكرية لمؤلفيها لم تستنفد. المعلوم أن القانون الأميركي شهد تعديلات ضخمة في الآونة الأخيرة، بضغط من الشركات العملاقة، يطيل مدّة المُلكية الفكرية إلى 95 سنة! وبقول آخر، بفضل ضغوط الشركات العملاقة، صار الجمهور ممنوعاً من الوصول الحرّ إلا للمعرفة التي تصبح خلف التاريخ بقرابة قرن من الزمن. تشرين الأول (أكتوبر) 2008: بعد مفاوضات قاسية، توصّل المؤلفون والناشرون إلى مشروع تفاقية مع «غوغل» يتضمن تسوية في شأن حقوق المُلكية الفكرية. 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009: في استجابة لمئات من الاعتراضات على مشروع هذه الاتفاقية، أدخل الأطراف المعنيون بها تعديلات أساسية عليها، وأودعوها لدى القضاء. وقضت الاتفاقية المُعدّلة بأن يدفع «غوغل» 125 مليون دولار للكتاب الذين رُقمنت أعمالهم من دون إذن منهم، مع إنشاء «صندوق لحقوق المؤلفين» يضمن إيرادات للمؤلفين الذين يقبلون برقمنة كتبهم. شباط (فبراير) 2010: أجرى القاضي داني شين جلسة استماع موسّعة عن مدى عدالة الاتفاقية المُعدّلة، فحصل على مزيد من الأصوات المعترضة عليها. 23 آذار (مارس) 2011: أصدر القاضي شين قراراً برفض الاتفاقية المُعدّلة، ووصفها بأنها غير عادلة وغير ملائمة وغير مقبولة. ويعني هذا القرار منع «غوغل» من رقمنة كُتب نافدة وغير موجودة في السوق أو نادرة، وهي ضربة قوية لمشروع «مكتبة غوغل» الرقمية. [email protected]