الإعلام العربي الرسمي لا يصدقه أحد، بل إنه ينفي صدقية أخبار صحيحة بمجرد أن ينقلها، لأن القارئ يقرأ الخبر الرسمي ليبحث عن الحقيقة في مكان آخر. والإعلام الخاص في بلدان حيث سقف الحرية مرتفع، مثل مصر ولبنان والكويت، يسيء استخدام الحرية، إما بإطلاق التهم جزافاً وإما بخوض معارك وهمية. تجربتي في الشرق والغرب هي أن الصحافي لا يحتاج أن يخترع أو يلفق، فهناك مادة متوافرة كل يوم للنشر والتعليق عليها. فالكل يخطئ، حاكماً ومحكوماً، وما على الصحافي سوى أن يبذل بعض الجهد ليجد ما يناسبه، ومن دون حاجة الى إطلاق العنان لخياله ومحاربة طواحين هواء. هذا المقال أخّرته مرتين وأنا أحاول أن أعرف هل سيحضر السفير السوري في لندن الأخ سامي الخيمي زفاف الأمير وليام وكيت مدلتون أم سيغيب عنه. هنا قصة حقيقية تستحق التعليق. وزارة الخارجية البريطانية سحبت الدعوة التي تلقاها السفير بسبب أحداث سورية وقتْل المتظاهرين. وأنا حتماً أعارض قتل أي متظاهر، وقد قلت هذا في السابق وأكرره اليوم قبل أن أكمل. جريدة «الديلي ميل» الواسعة الانتشار كان عنوانها الرئيسي «غضب شديد لدعوة سفير الديكتاتور». وفي النص أن نواب حزب العمال غضبوا بشدة لدعوة السفير السوري وعدم دعوة رئيسي الوزارة العماليين السابقين توني بلير وغوردون براون. وهؤلاء النواب لم يثوروا طبعاً لدعوة سفير إسرائيل، أو ممثل دولة العنصرية والفاشستية التي تقتل النساء والأطفال. بعض المقارنة: سامي الخيمي مثقف ورجل أعمال، لم يكن يوماً عضواً في حزب البعث. وبلير أقحم بلاده في حرب على العراق لُفِّقت أسبابها، وأدت الى مقتل مليون عراقي ومئات الجنود البريطانيين، وتبعه براون فلم يغيّر سياسة سلفه. هذا عن الأشخاص، أما عن الدولتين، فإنني لا أدافع عن سورية أبداً، وإنما أقارن مع بريطانيا، وأجد أن المتهمة به الأولى لا يزيد على واحد في المئة من الذي ارتكبته الثانية. أسوأ مما سبق «الكشف» الذي طلعت به «الغارديان»، وهي جريدة ليبرالية محترمة، فقد كان عن علاقة جامعة كبرى بسورية. في التفاصيل أن جامعة سان أندروز التي تعلَّم فيها الأمير وليام وكيت مدلتون، قبلت منحة بمبلغ مئة ألف جنيه استرليني من رجل الأعمال السوري أيمن أصفري بعد وساطة السفير الخيمي (زوجة أيمن أختنا سوسن عندها جمعية خيرية أبرز جهودها تعليم الصغار). أين الخطأ في سفير يعمل لمساعدة مركز للدراسات السورية في جامعة بريطانية بارزة، وفي رجل أعمال قادر يدعم هذا النشاط، طالما أن ليس للرجلين أي مصلحة شخصية في الموضوع؟ وهذا عكس ما سمعنا عن مدرسة لندن للاقتصاد (وهي جامعة اقتصادية ذات سمعة عالمية)، فقد قبلت مالاً من سيف الإسلام القذافي مقابل مَنْحِه دكتوراه تبيَّن أنها كتبت له. «الغارديان» الراقية عطفت على الدكتور فواز الأخرس، والد السيدة أسماء زوجة الدكتور بشار الأسد، و «التهمة» أنه يرأس جمعية الصداقة السورية - البريطانية، وهي ترتب زيارات سياسيين متعاطفين الى سورية، في حين يشرف رئيسها على «فحص» الصحافيين البريطانيين من طلاب المقابلات مع الرئيس أو زوجته. أريد أن أفهم ما هي الجريمة في ما سبق؟ سفير ينشط لخدمة بلاده، ورجل أعمال قادر يتبرع لمركز ليست له مصلحة شخصية فيه، وطبيب قلب يعمل في أشهر شارع للأطباء في لندن (هارلي ستريت) يحاول تحسين العلاقات بين بلديه، بالولادة والتبني. على الجانب الآخر من المحيط، ثلاثة من أعضاء مجلس الشيوخ، هم الجمهوريان جون ماكين ولندسي غراهام و «المستقل» جو ليبرمان، دعوا إدارة أوباما الى فرض عقوبات على سورية وقطع العلاقة مع الرئيس الأسد. الحزب الجمهوري برئاسة جورج بوش الابن وتأييد أعضائه في مجلسي الشيوخ والنواب، خطّط لحرب أسبابُها لُفِّقت عمداً على العراق، ونعرف النتائج على العرب والمسلمين مع خمسة آلاف قتيل أميركي. هؤلاء الجمهوريون دم الأبرياء على أيديهم، والأرقام بمئات الألوف، وهم يحرضون على سورية (ليبرمان ليكودي يمثل إسرائيل في مجلس الشيوخ وعدو العرب والمسلمين). وضاق المجال، وعندي خبر آخر، فقد حكمت محكمة بحرينية على أربعة رجال بالموت لقتلهم اثنين من رجال الشرطة، و «الإندبندنت» و «الفاينانشال تايمز» نشرتا عنواناً مهنياً للخبر، غير أن عنوان الخبر في «الغارديان» كان «الحكم بالإعدام على محتجين» وفي «التايمز» «محكمة عسكرية بحرينية تحكم بالموت على محتجين مطالبين بالديموقراطية»، مع أن النص في الجريدتين أعطى سبب الإعدام. هم حُكِم عليهم بالإعدام لقتل شرطيين، لا لأنهم معارضون أو محتجون، كما في العنوانين الأخيرين. كل ما على الصحافي العربي هو أن يبحث، وسيجد، وأنا أهاجم الطرف الآخر من دون أن أدافع عن أي بلد عربي. [email protected]