«ليلة القتلة»، المسرحية الشهيرة للكاتب الكوبي خوزيه تريانا، تُعرض حالياً على مسرح «الطليعة» في القاهرة برؤية جديدة لمخرج شاب هو تامر كرم. يلائم هذا العمل أجواء الثورة التي تعيشها مصر منذ 25 كانون الثاني (يناير) الماضي، فتيمته الأساسية تقوم على مناقشة فكرة التمرد والثورة على التقاليد الراسخة، الممثلة هنا في السلطة الأبوية بإمتداداتها المختلفة (سياسية أو دينية أو مجتمعية). وتناقش المسرحية الفارق الرفيع بين الثورة المالكة لأفكار بديلة لما هو كائن وراسخ، والفوضى التي ستنشأ حتماً حين يكون التمرد غير مؤسس على رؤية شاملة الى بديل واضح لهذا الكائن المستقر المغضوب عليه. وهو الأمر الذي أكده تاريخ كثير من الحركات التمردية التي انتهت في نهاية مطافها إلى فوضى مهدت الأرض لسيطرة طغاة أشد شراسة وقهراً. العرض من هذا المنطلق يريد أن يقول عبر ممثليه الثلاثة (محمد يونس وجيسي عادل وياسمين سمير) أن انتبهوا فثورتنا لا تزال في بدايتها، وأن سقوط رأس النظام ليس هو النهاية ، وأن المقبل من الأيام يمكن أن يحيلنا إلى فوضى أشبه بفوضى الشاب «لاللو» وشقيقتيه. وربما كان هذا السبب تحديداً هو ما جعل المخرج تامر كرم يبدأ عرضه قبيل بدايته الحقيقية، أو بمعنى آخر يبدأ العرض مع بداية دخول المتلقين إلى داخل القاعة. فعلى الباب تستقبلك فتاتان تتشحان بالسواد تمسك كل منهما مصدراً صغيراً للإضاءة موجهاً على وجهها الناطق بحزن دفين، وحين تمضي أكثر داخل القاعة باحثاً عن مقعدك تلاحظ شاباً يقف في عمق منطقة التمثيل يحمل على يديه ما يشبه الجثة الملفوفة في ملاءة بيضاء ملطخة بالدم. وهي بداية ستعطيك إحساساً أولياً بأنك – كمتلق – مشارك بطريقة ما في أحداث عرض اسمه «ليلة القتلة» حتى ولو كانت مشاركتك تلك لا تتعدى حدود الشهادة على جريمة بدأت بلعبة ثم تداخلت الخيوط إلى درجة قد يصعب معها الفصل التام بين ما هو لعب وما هو حقيقي. ومع استقرار المتلقين على مقاعدهم، يصرخ الشاب معلناً بداية العرض. تنطفئ الأنوار الشاحبة ليسود ظلام دامس قبل أن تتوهج مساحة التمثيل باضاءة تصاحبها موسيقى صاخبة ودقات متتالية وسريعة على أرضية المسرح تقوم بها الفتاتان اللتان عادتا للإنضمام إلى الشاب ليصحبونا إلى حيث لعبتهم الخطرة. حوار الأشقاء الثلاثة يشي بأن هذه الليلة ليست ليلتهم الأولى، بل إن إحدى الشقيقتين ترفض بعناد المشاركة في اللعبة التي باتت تراها مملة وغير مجدية، بل إن حوارها مع شقيقها الذي يجبرها على الاشتراك قهراً مستخدماً سلطته كأخ أكبر وكذكر يمتلك ما لا تمتلكه هي من قوة عضلية، يضعنا أمام حقيقة أن التمرد الأهوج يفتح الباب لولادة طغاة جدد. الأحداث تتوالى معتمدة على لعبة تبادل الأدوار، فالأبناء الثلاثة يقومون بتمثيل أدوار الأب والأم والأصدقاء، بل ويقوم كل منهم بأداء دور أحدهم حسبما يحتاج الحدث المعاد تشخيصه. فالبداية كانت على خلفية خلاف بين الفتى وإحدى الفتاتين، يستخدمه الكاتب ومن بعده المخرج في الفصل ما بين اللعب المستعيد لأحداث سابقة وما بين الآني الذي يدور في هذه الليلة. هذا الفصل المتكرر، لا يقف دوره فقط عند حدود التأكيد على اللعبة، لكنه بهذا التأكيد يعطي المتلقي – المدعو للمشاركة – فرصة التأمل وإعمال العقل في ما يراه من أحداث، ومناقشة ما يقال أمامه من منطق. إنه ببساطة يساهم في أن يقوم المتلقي بدوره المفترض كأحد أعضاء هيئة محلفين كبرى، يعلن حكمه في نهاية العرض ويصحب هذا الحكم معه خارج القاعة حيث ثورة الواقع لا تزال مستمرة. ولعل أجمل ما في نص خوزيه تريانا هو ذلك الغزل الشفيف والدقيق الذي لن يتركك تقع في تعاطف زائف مع الأبناء رغم قوة حجتهم، بل يجعلك تراجع منطقهم وتقارنه بمنطق الآباء الذين يمثلونهم. وفي النهاية تكتشف أن «الدودة في أصل الشجرة»، عبر مشهد ما قبل الختام حين يستعيد الأبناء تصورهم عن كيفية ارتباط ذلك الزوج بتلك الزوجة، لتتأكد أن الثمار الخربة تأتي دوما من زرع بذور فاسدة في أرض خراب. تأكيد منطق اللعبة لن يأتي في عرض تامر كرم من طريقة الأداء فقط ولا كذلك من حوار خوزيه تريانا، لكنه يتأكد من تفاصيل الديكور الملخص لهذا البيت. فالكراسي، على سبيل المثل، عبارة عن الوجوه التقليدية لأوراق اللعب (الولد والبنت والعجوز)، وهي الوجوه التي يلاحظها المتلقي متناثرة في تفاصيل أخرى كثيرة، كالستائر مثلاً. وكأن تلك التفاصيل تقول للمتلقي: انتبه اننا نلعب، فلا تندمج وكن أكثر يقظة لتكون حكماً عدلاً على هذه اللعبة. و حرص تامر كرم – المخرج- على أن يثري عرضه بفواصل موسيقية ذات شجن، تصنع بتناقضها مع الأحداث الكوميدية حالة أخرى من الفصل، وتؤكد في الوقت ذاته أن هذه الكوميديا التي تفجر فينا الضحكات تنطوي على مأساة خفية. ويبقى أن أهم عنصر في هذا العرض، هو ذلك الأداء العالي للثلاثي (يونس وجيسي وياسمين) وهو أداء من دونه كان العرض ليغرق في خلل ايقاعي يلقي بالفكرة والهدف في هاوية الملل، وهو نجاح مضاف إلى نجاحات المخرج الشاب تامر كرم، ويشي بقدرات ممثليه على فهم عمق النص واستيعابهم لرؤية مخرجه.