لمّا كان التعليم شكلاً من أشكال التنظيم وتقسيم العمل لتعليم الأجيال الجديدة وتأهيلها لدخول معترك الحياة، كان من الضروري أن تكون المناهج التعليمية قابلة للتعديل والتطوير كي تتمّ الملاءمة بين الخطط والبرامج التعليمية ومتطلبات المستقبل. وقد مثل التعليم على مرّ التاريخ وسيلة فعّالة قادرة على إحداث التأثير والتغيير، من منطلق أن الاستثمار في التنمية البشرية يعتبر سلاحاً لكل الشعوب التي تطمح لاكتساب القدرات والمهارات والمؤهلات المطلوبة لتحقيق الرقي الفكري والاقتصادي والاجتماعي. ولعل ما يميز تونس التي شكلت ثورتها شرارة الثورات العربية ودرساً للحكام، هو التعليم والوعي بأهمية الأخذ بناصية المعرفة بمختلف منابعها وتياراتها وتوجهاتها. فلم تفلح بذلك محاولات نظام بن علي السابق وقبضته الحديدية في التضييق على الحريات الأكاديمية، فأُرغم على فتح الجامعات في كامل تراب الجمهورية في مختلف الاختصاصات أمام الجنسين من دون أي تفرقة. وإن كان إحباط المتعلّمين في تونس والعاطلين عن العمل يعدّ واحداً من بين الأسباب الكثيرة التي أشعلت فتيل الثورة التونسية ودفعت الخريج الجامعي محمد البوعزيزي لحرق نفسه احتجاجاً على حقه في التشغيل وتوظيف معارفه، فإن التعليم في مختلف المستويات الدراسية في تونس يطرح اليوم العديد من الإشكاليات، باعتبار أنه كان تحت سلطة نظام قمعي ولا يتّسم في بعض مناهجه بالحياد. هذا الواقع جعل كل الأطراف المنتمية للأسرة التربوية والتعليمية في تونس، بدءاً بالمربي والمعلم والأستاذ والطالب، يعيدون النظر في كل ما يتعلّق بالمسيرة التربوية والتعليمية لكل مواطن تونسي، فقد أجبرت الثورة التونسية التي قادها شباب متعلم وواعٍ، استفاد بكل ذكاء من أساليب التواصل الحديثة، الجميعَ على التنبُّه لأهمية الإصلاح وإعادة النظر في المناهج التعليمية. ويقول الناطق الرسمي باسم وزارة التربية محمد سفر في هذا الصدد: «سعى نظام بن علي بكل الطرق والوسائل الى تغيير محتوى التعليم العام بمختلف مراحله بهدف تربية أجيال موالية لفكره وتوجهاته، ممّا خلق مناخاً خانقاً للفكر المتسائل والناقد تجسيداً لرغبة الرئيس المخلوع في تكريس الانفراد بحق اتخاذ القرار في كل أوجه الحياة». ويضيف: «من الضروري إعادة النظر في بعض الدروس المشخصنة التي كانت تمجِّد النظام واستبدالها بمحتوى دراسي آخر يتماشى فيه النظري بالتطبيقي، خصوصاً في مادّة التربية المدنية التي تتحدّث عن المواطَنة وحقوق الإنسان والحريات وغيرها». ويوضح سفر أنه «تمّ في الوقت الحالي، بسبب ما عرفته الدروس من انقطاع خلال الثورة، التخفيف في بعض البرامج بالنسبة لتلاميذ البكالوريا مثلاً، من دون المساس بالقيمة العلمية للشهادة، بالإضافة إلى الجمع بين الثلاثي الثاني والثالث في المرحلة الابتدائية، توفيراً للوقت ولتمكين التلاميذ من تدارك ما فاتهم من دروس». ولم تقتصر التغييرات التي أحدثتها الثورة على مضمون المناهج وتعديل مواعيد بعض الامتحانات، بل سمح أخيراً بارتداء الحجاب، سواء في صفوف المتعلمين أم الجسم التربوي، بعدما كان المنشور الشهير رقم 108 يعتبر الحجاب لباساً طائفياً، بالإضافة الى إلغاء الأمن الجامعي. وإذا كانت الطريق طويلة أمام إصلاح منظومة تربوية عانت الكثير خلال أكثر من عقدين، فإن الإصلاح على حدّ قول الأستاذة الجامعية هالة بن علي، يتطلب مشاركة جميع الأطراف المعنيين بالعملية التعليمية. وتوضح بن علي، أن تغييراً كبيراً عرفته فصول الدرس إثر الثورة، «لأن التطورات السياسية المتسارعة التي شهدتها تونس جعلت النقاش حولها يفرض نفسه بشكل عفوي، وكشف شغفاً كبيراً لدى الطلبة للاطلاع وفهم ما يحدث، خاصة مع ظهور مصطلحات جديدة تطرح الكثير من علامات الاستفهام». وتقول الطالبة هاجر الدريدي: «لاحظت تغييراً كبيراً في علاقة الأستاذ بالطالب، فالحوار أصبح أكثر جرأة، ولم تعد هناك تابوهات لا يمكن التحاور بشأنها»، مضيفة أن الثورة «ضربت كل الأفكار القديمة التي كانت تروَّج بشأن المستوى المتردّي للطلبة، الذين صاروا أكثر إقبالاً على المطالعة، وأكثر مواكبة للأحداث الوطنية، التي كان عدد كبير من الأساتذة في السابق يتجنبون إثارتها». وتقول الطالبة سنية، إن الثورة التونسية «خلقت مناخاً جديداً للتعامل بين الطالب وإدارة المؤسسة التعليمية، فبعد سنوات من الإقصاء والتهميش، فتحت الإدارة أبوابها، وتمّ اختيار ممثل للطلبة من كل فصل لإيصال آرائهم ومقترحاتهم، في خطوة للإنصات لمشاغلهم وتطلعاتهم». أما تلامذة المدارس، وخصوصاً من هم في المرحلة الثانوية، فلم يلاحظوا بعدُ أيَّ تغيير في العملية التعليمية بعد الثورة، ويشير بعضهم إلى أن التغيير يجب أن يبدأ من الجذور، أي المراحل الابتدائية، باعتبار أن «العقليات أصيبت بحالة من التجمّد». ولئن أجمعت كل الأطراف من أساتذة وطلبة وإداريين على أن إدخال إصلاح شامل على المنظومة التربوية أمر مطلوب وفي غاية الأهمية، فإن تحقيق ذلك يتطلب بذل جهود كبيرة لوضع خطة إصلاح للتعليم تتماشى مع تحديات المرحلة المقبلة.