«إنني مسؤول عن جمال العالم». ذلك ما يقوله ويؤكده أحد أهم أباطرة الرومان في رواية مارغريت يورسنار «مذكرات هادريان» بترجمة حسن عبدالفضيل، الصادرة أخيراً عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة في سلسلة «آفاق عالمية»، علماً أن طبعتها الأولى صدرت في عام 1951. هادريان؛ الشخصية التاريخية متعددة الأوجه؛ بدءاً من السياسة، وصولاً إلى الآداب، مروراً بالمنجز الفني؛ تدور حوله تلك الرواية التي تمزج الوقائع بالخيال؛ فهي؛ من ناحية أولى، تشكل إعادة بناء دقيقة وعلمية لحياة واحد من أعظم الأباطرة الرومان، ومن جهة أخرى، تتميز بتكوينها الأدبي الثري. يورسنار (1903–1980) اجتازت المرحلة الأولى من دراسة البكالوريا اللاتينية الإغريقية بتقدير «مقبول»؛ وحرمتها المشكلات المالية للأب من مواصلة الدراسة للحصول على ليسانس الآداب، فقررت أن تكون كاتبة، وباتت الروائية والشاعرة والكاتبة الفرنسية المشهورة؛ «ذات الجانب الخفي والمتناقض»؛ بحسب ما أطلق عليها؛ والتي استطاعت قبل موتها بقليل دخول الأكاديمية الفرنسية كأول امرأة أديبة يتحقق لها ذلك. تصف يورسنار في لغة رائعة من الفخامة والرسوخ، على نسيج تاريخي محكم، مسيرة حياة إنسان مدرك أشد الإدراك لتبعاته، كرجل دولة، ومولع أشد الولع بنشر الفنون. عبر عيون الإمبراطور الروماني هادريان؛ تقوم يورسنار بإعادة إحياء واحدة من أعرض فترات روما ذلك العصر الذي كانت خلاله «المدينة الخالدة» في أوج قوتها، وتصل إلى نقطة التوافق التي سيعمل الإمبراطور ماركوس أوريليوس، بعد هادريان، بكل قواه، للحفاظ عليها. الطموح، المرض، النوم، الحب، بناء المعابد والمكتبات ونحت التماثيل وكل ما يرتبط بالنزعة الجمالية، والحضارات القديمة أشياء ميّزت الإمبراطور وجعلته نموذجاً يصعب تكرره. تقول يورسنار: «كان الوقوع مصادفة على مذكرات ت. إ. لورانس، الذي خطا في آسيا الصغرى على خطى هادريان نفسها؛ لكن خلفية الأخير لم تكن الصحراء، بل كانت تلال أثينا، وكلما كنتُ أمعن التفكير فيها، كانت تجربة الإنسان الذي يرفض (بل كان في البداية يكابر) تتملكني أن أقدم– من خلال هادريان– وجهة نظر الإنسان الذي لا يتنازل، بل بالأحرى الإنسان الذي لا يتنازل في مكان إلا ليقبل في مكان آخر. لكن؛ ومن الواضح؛ فضلاً عن ذلك؛ أن نزعة الزهد هذه ونزعة البحث عن المتعة؛ كانت تستند إلى كثير من النقاط، بحيث يمكنهما تبادل المواقع في كثير من الحالات». وتتضمن الرواية (500 صفحة) كماً هائلاً من الهوامش والتعليقات التي يصفها المترجم بأنها «ستدهش القارئ»، ولكن– وبنظرة متمهلة– سيتبين له أنه أمام نص ذي خصوصية وفرادة كبيرة. وأبرز ملامح هذه الخصوصية أنه نص تاريخي، فلو أراد أحدهم مطالعة ما كُتب عن هادريان، حتى منتصف القرن العشرين، فقد كفته الكاتبة مشقة البحث، إلا أن النص يضيف سياحة في العالم القديم وممالكه. تقول يورسنار: «في مجلد من مراسلات فلوبير وجدتُ تلك العبارة التي لا سبيل لنسيانها، وقد قرأتُها باهتمام شديد بعدما كانت استرعت انتباهي كثيراً عام 1927، حيث تقول: «بما أن الآلهة لم يعد لها وجود، وبما أن المسيح كذلك لم يعد له وجود، فكانت هناك منذ شيشرون وحتى ماركوس أوريليوس، لحظة فريدة كان الإنسان خلالها بمفرده وحيداً». ثمة جانب كبير جداً من حياتي كان مقدراً أن أقضيه في محاولة لأن أحدد، ثم أرسم هذا الرجل بمفرده، ومِن ناحية أخرى، مِن خلال ربطه بجميع مَن حولَه». وتضيف: «مهما يكن ربما كان يلزمني حل مشكلة الاستمرارية؛ هذا التصدع، هذا الإظلام الروحي الذي كثيراً ما نتعرض له في هذا العصر، كل وفق طريقته، والذي غالباً ما يكون بطريقة أكثر مأسوية وأكثر حدة مما تعرضتُ له، وذلك لكي ألزم نفسي بمحاولة طمر، ليس فقط المسافة الزمنية التي تفصلني عن هادريان، ولكن بالأخص تلك المسافة التي تفصلني عن ذاتي». «انغراس في يأس كاتب لن يكتب شيئاً»؛ هكذا تؤكد يورسنار التي عُرفت بنزعتها الكلاسيكية الإنسانية والتي عاشت السنوات الأخيرة من عمرها في جزيرة معزولة قرب الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأميركية. وتقول: «كانت أسوأ لحظات همتي المحبطة وفتوري؛ كنتُ أذهب إلى متحف هارتفورد في ولاية كونكتيكت؛ لمعاودة رؤية لوحة رومانية لكاناليتو، تمثل البانتيون البُني والمذهب ممثلاً في مشهد جانبي مطلاً على السماء الزرقاء في نهاية عصر يوم صيفي، وكنتُ أغادر اللوحة في كل مرة؛ بشوشة ومفعمة بالإحساس». ولا يفوت مارغريت يورسنار في ملاحظاتها المدهشة والممتعة حول مذكرات هادريان؛ أن تحكي عن أشياء كثيرة ربما لا تقل أهمية عما أوردته في متن المذكرات نفسها؛ «كنتُ أقول لنفسي دائماً إن كل ما حكيتُه هنا عرضة للتشويه؛ بما لم أقصده؛ فهذه الملحوظات– تقصد ما دوّنته في دفتر في نهاية الرواية- لا تسد إلا فجوة واحدة، فالأمر لا يتعلق بما كنتُ أقوم به طوال سنوات صعبة- قرابة ربع قرن– ولا بالأفكار، ولا المجهودات، ولا بلحظات الضيق، ولا لحظات السعادة، ولا الصدى الهائل للأحداث الخارجية، ولا بالاختيار المستمر للذات على محك الأحداث. وها أنا أهمل كذلك خبرات المرض، وخبرات أخرى، أكثر خصوصية، تنبثق مِنها، وكذلك الحضور الأبدي للحب أو البحث عنه».