ليست كارثة الطيران مأساة مثل غيرها من المآسي. فعلى رغم ان الطائرة تودي بحياة ناس أقل من الذين تودي بهم حوادث السير، يثير سقوط الطائرات أحاسيس حادة ومحمومة. فثمة صنف خاص من الألم الجماعي يصيب الناس حين تنفجر طائرة أو تسقط، يعود ربما الى ان الطيران ليس في طبع الإنسان، والموت في اثناء الطيران وجراءه ليس موتاً طبيعياً وعادياً. ولا ريب في ان سقوط ايكار يردد في أعماقنا صدى إنسانيتنا الأرضية. ولا تعدم حوادث الطيران بث الاضطراب والشك في النفوس والعقول. والتخمين في أسباب الحوادث، والترجح بين الصاعقة والعطل التقني أو الخطأ البشري والعملية الإرهابية وإطلاق الصاروخ، يفاقمان الاضطراب والشك هذين. فإذا استحال العثور على الجثامين وعلى الصناديق السود، وأدلى علماء مزعومون إرهابيون مفترضون بدلائهم في المسألة، وشككوا في فرضية الحادثة، تفاقمت الشكوك. ولا توسط في الأجواء بين الحادثة الصغيرة، التي تودي بالمسافرين والآلة، وبين السلامة التامة، فإما الأمر مميت وإما لا شيء يستحق التنويه. وليس بينهما إلا المعجزة. والمراهنة هذه نادرة في الحياة المعاصرة، وتغذي قلق المسافرين قبيل ركوب الطائرة وإقلاعها. ولا سبيل الى النزول من الطائرة وهي في الجو. وفي أثناء الساعات التي يدومها الطيران لسنا في خيرة من أمرنا، ولا من قدرنا. فنترك زمام حياتنا، على نحو المقبل على جراحة، بين أيد غريبة. والحق اننا لسنا بين ايد إنسانية. فالأخطاء الإنسانية قليلة، وغالباً ما تسقط الطائرات تحت ضربات الصدفة. وسبق ان كتب شيشرون في القدر والصدفة، فقال: «ان القدر ليس ما يفهمه تصديق الخرافات، بل هو ما تسميه لغة الفيزيائي سبب الأشياء الثابت، وما به حدث ما حدث، ويحدث ما يحدث، وسيحدث ما سيحدث (...) وهو جملة الأسباب التامة. فالسبب المتحدر من علة يؤدي الى معلول. وهذه هي الحقيقة التي لا تحول ولا تزول منذ الأزل». ولعل هذا ما تسميه لغة الخبراء المتخشبة «اتفاق الظروف» أو «تضافر العلل». وخلص الرواقيون من هذا الى كسب قوة معنوية، وانتهاج فلسفة حياة. ولكن قرننا لا يكاد يجد بعض العزاء في فكرة القدر. والألم الذي تشترك فيه أسر ضحايا طائرة «أوتا» دي اس 10 بالأمس والمارتينيكيين الذين فقدوا في فنزويلا ومصطافي شرم الشيخ، واليوم أسر ضحايا رحلة شركة الطيران الفرنسية 447 ريو دي جانيرو - باريس، هو ألم واحد يشدهم الى أمة واحدة. * رئيس التحرير، عن «لسكبريس» الفرنسية، 4/6/2009، إعداد وضاح شرارة