تعيد تصريحات ومواقف السفير السوري في لبنان الذاكرة إلى زمن «المفوض السامي» الفرنسي الذي كان يمثل آنذاك إحدى الدولتين العظميين اللتين لم يكن لهما منافس في المنطقة، والذي كان يتصرف بالسيادة اللبنانية على هواه وفقاً لمصالح بلاده وما تقتضيه سياساتها. لكن سورية التي لعبت دور الوصي على لبنان طوال ثلاثة عقود، ليست «عظمى» بأي مقياس، ولم يعد معترفاً لها اليوم بهذا الدور، ولا هي قادرة على ممارسته سوى بطريقة سلبية، إذ بات نفوذها يقتصر على حلفائها المقربين، وفي اتجاه واحد، ولم يعد قادراً على الخروج بتسويات وتركيبات برع ضباط استخباراتها في صوغها استناداً إلى رعايتهم تناقضات اللبنانيين وتغذية نزاعاتهم. والعجز السوري عن «التحكم» بطرفي الملف اللبناني يتضح في تقديم سفير الدولة التي كان يهابها اللبنانيون مجتمعين «إخباراً» إلى السلطات اللبنانية عن نائب من «تيار المستقبل» تتهمه وسائل الإعلام السورية بتسليح المعارضة وتحريضها، على رغم أن التحركات المناوئة للنظام داخل سورية استمرت بعد «الكشف» عن «تورط» جمال الجراح وبعد تشديد إجراءات الرقابة على طول الحدود السورية مع لبنان، ولا تزال قائمة. لكن لماذا تتقصد دمشق استهداف تيار الحريري بعدما أبعدته وحلفاؤها عن رئاسة الوزراء رغم تمثيليته السنية الكاسحة؟ وما علاقة ذلك بالوضع السوري الداخلي؟ في العام 2003 عندما غزت الولاياتالمتحدة العراق واقترب جيشها من الحدود مع سورية، ووجهت واشنطن تحذيرات مباشرة وأخرى مبطنة إلى دمشق بضرورة تغيير تحالفاتها وسلوكها عبر الانسحاب من لبنان والابتعاد عن طهران، اعتبر البعض أن الرد السوري جاء في صورة معاقبة السنّة اللبنانيين على مواقف أميركا، عبر شن حملة قاسية على رفيق الحريري وإبعاده عن رئاسة الوزراء قبل أن يتعرض للاغتيال لاحقاً، بغض النظر عما إذا كانت دمشق متورطة مباشرة في الجريمة أو في التقصير الأمني الذي سهّل حصولها، وهو أمر متروك للمحكمة الدولية. وهذه المرة يحاول الحكم في سورية تكرار تجربة العام 2003 عبر شن هجوم إعلامي على تيار سعد الحريري، سرعان ما تلقفه حلفاؤها في لبنان وبنوا عليه، للإيحاء بأن الولاياتالمتحدة هي المسؤولة عن موجة الاحتجاجات المتزايدة على الأراضي السورية وتصاعد الدعوات إلى مزيد من الحريات، وللتحذير من أن دمشق مستعدة للرد مجدداً عبر معاقبة «أصدقاء واشنطن» في لبنان. لكن في نظرية «المؤامرة الدائمة» السورية ما يجافي الحقيقة والواقع ويشي برغبة لا تنطفئ في استعادة دور مفقود على رغم كل النفي الرسمي للتدخل في الشأن اللبناني، أولاً لأن المعارضين السوريين اثبتوا أن لتحركاتهم دوافع داخلية بحتة وليست مرتبطة بأي رغبات خارجية، ولأن الموقف الأميركي منها يطغى عليه التحفظ والتردد، وثانياً لأنه لم يعد هناك في لبنان ما يمكن التفاوض عليه بين دمشقوواشنطن، إذ أدى القرار 1701 وانتشار القوات الدولية دور الضابط لنشاط «حزب الله» عند الحدود الجنوبية، بعدما استخدمت سورية طويلاً هذا النشاط ورقة للمساومة مع الأميركيين وسواهم.