«في ثلاث صفحات فقط من قصته القصيرة «متسولة لوكانو»، حكى كليست حكايةً كان كاتبٌ مواطنٌ له هو هوفمان، في حاجة - مثلاً - الى مئتي صفحة ليحكيَها»، عبارةٌ تناول بها ناقد من القرن العشرين أسلوبَ كليست في الكتابة. يمكن اعتبار العبارة وصفاً لأسلوب هذا الكاتب ودقة تعابيره - ولا سيما توصيفاً شديد الدقة لما أثر من حس الاختزال العالي لدى هذا الكاتب الذي قد يكون منسياً بعض الشيء في ايامنا هذه -، أكثر من اعتبارها مجرد مدح له. والحال أن معظم الذين كتبوا عن كليست توقفوا عند ذينك الاختصار والدقة لديه، وربطوهما غالباً بكونه متحدراً من أسرة عسكرية، ما يعني نزعة الدقة واختيار الدروب الأسهل والأقصر التي ميّزت العسكريين دائماً، ولا سيما في بروسيا، التي ينتمي كليست اليها. ومع هذا لا بد من أن نلاحظ ان كليست، سليل أسرة العسكريين، لم ينجح أبداً في حياة عسكرية أُلْحِقَ بها باكراً وأوصلته الى رتبة ملازم، فترك الجندية ليتحول الى الكتابة، حيث حقق نجاحاً هائلاً في زمنه وفي الأزمان التالية له مباشرة على الأقل. وأبادر هنا الى القول إن أيَّ واحد من كاتِبِي سيرة كليست لم يَفُتْه أن يذكر كيف أن معظم كتاباته كان يبدو دقيقاً دقةَ التقارير العسكرية. لكن هذا لم يكن الميزةَ الوحيدة التي تميِّز أدبَ كليست، فالميزة الأساسية كانت دائماً أعمق بكثير: كان كليست كاتباً انتفض ضد الظلم، وأمضى حقبة أساسية من حياته وهو يناصر العدالة والبراءة في كتاباته. هذا من طرف علني واضح، أما من طرف خفي، فإن كليست تعمَّدَ في الكثير من كتاباته ان يعبِّرَ عن تمسكه بالمبادئ والقيم التي أرساها مؤسس المذهب البروتستانتي في مناطق الشمال الأوروبي اولاً مارتن لوثر. ولئن كان ثمة من بين أعمال كليست عملٌ يَجمع بكل وضوح هذه العناصر كلها، فإن هذا العمل هو روايته القصيرة «ميخائيل كوهلهاس»، التي تعتبر الأكثر شهرة بين أعماله، الى جانب «أمير هامبورغ» و «الجرة المكسورة»، كما تعتبر هذه الرواية على قصرها أهم نص غير مسرحي كتبه كليست خلال حياته القصيرة، إضافة الى أن «ميخائيل كوهلهاس» كانت من آخر ما كتب كليست من نصوص قبل انتحاره في العام 1811 عن عمر لا يزيد عن 34 سنة، إذ إن «ميخائيل كوهلهاس» كُتبت ونُشرت في العام 1810، اي قبل عام واحد من ذلك الرحيل المفجع لكاتب كانت كتاباته تَعِدُ بالعديد من الثورات، إنْ على الصعيد الفكري او على الصعيدين الاجتماعي والفني. في شكلها الخارجي، تبدو رواية «ميخائيل كوهلهاس» روايةَ مغامرات، وجورج لوكاتش، ناقد القرن العشرين الكبير المجري، صاحب كتاب «الرواية التاريخية»، تحدث عنها كثيراً، في كتابه الشهير هذا كما في نصوص عديدة أخرى له، بصفتها نموذجاً للرواية التاريخية. غير أن هذا لا يمنع من اعتبارها، في الدرجة الأولى، روايةً سياسية، علماً بأن كثراً من النقاد والدارسين يجدون عادة صعوبة في التفريق بين التاريخي والسياسي في الرواية، بيد ان هذا موضوع آخر لا إمكانية للتوقف عنده في سياقنا هنا. بطل هذه الرواية، والذي أعار اسمه لعنوانها، هو إذاً ميخائيل كوهلهاس. وهو في الأصل رجل بورجوازي مزدهر ومتنور يمتلك مزرعة للخيول ويعيش حياة مطمئنة وادعة. ولكن ذات يوم، يحدث أن الإقطاعي الحاكم في إقليم ساكس (وهو في الوقت نفسه ناخب من ناخبي الإمبراطور)، يسمح لواحد من رجاله بأن يسرق حصانين مميَّزين من أحصنة ميخائيل كوهلهاس، فيؤذي السارق في طريقه حارس الحصانين الموظف لدى كوهلهاس في شكل صارخ. ويكون من نتيجة هذا الاعتداء المزدوج ان يغضب ميخائيل غضباً شديداً، لكنه يُؤْثِر أول الأمر أن يكتفي بشكوى ما حدث أمام المحاكم الساكسونية، لعل العدالة تعيد اليه الحصانين وتقتص من الجاني. لكن المحكمة ترفض دعواه تحت ضغط حاكم الإقليم ناخب الإمبراطور، فيسعى ميخائيل مسعى آخر: يرسل زوجته لتشكو الأمر أمام أمير براندنبورغ، لكن حراس هذا الأخير يعاملونها في شكل سيئ وباحتقار، ما يقتلها ما إن تعود الى زوجها راويةً ما حدث. وهنا يقرر ميخائيل انه سيحقق العدالة بيده طالما ان السلطات ظالمة. وهكذا، يشكل رجل الفكر والتنوير عصابةً تتألف من عدد من مناصريه، وهو إذ يصبح على رأس تلك العصابة يبدأ بالتحول من رجل يريد الانتقام لزوجته والحصول على حصانيه، الى زعيم يسعى الى محاربة القهر ونشر العدالة. وهكذا يتحول الخاص الى عام، وينشر ميخائيل ورجاله العنف والحرائق في بيوت أعدائه في المنطقة... غير أنه وهو يقوم بهذه الأفعال يحرص على ألاّ يظلم بريئاً... وهو أمر سنتبينه بوضوح من خلال مشهد رائع يزور خلاله ميخائيل مارتن لوثر في مقره، ويدور حوار بين الاثنين حول العدالة والقيم، ما يعطي الرواية أبعاداً جديدة... سياسية وفكرية، بل دينية خالصة هذه المرة. إذ إن لوثر كان في ذلك الحين يخوض معركته الإصلاحية ضد الكنيسة الرومانية التابعة للبابا وضد الحكام في آن معاً. والحال أن هذا المشهد يكشف بروتستانتية ميخائيل كوهلهاس (وبروتستانتية كليست بالتالي)، ويحوّل الرواية الى بحث فائق الجاذبية والجمال والقوة، حول الأخلاق والعدالة، ثم بخاصة الى سجال حاد بين العدالة والعنف، موضحاً موقف البطل الذي حوّله الظلم من طالب عدالة مسالم، الى ثائر عنيف. والحقيقة ان هذا البعد في رواية «ميخائيل كوهلهاس» هو البعد الأهم بالنسبة الى دارسي أعمال كليست وحياته، خصوصاً أن السؤال الأساس الذي يتبادر الى الذهن هنا هو: إذا كان ميخائيل ثار لأسباب شخصية، لماذا تراه تمكَّن من استقطاب المئات من حوله شاركوه ثورته مضحين بوقتهم وحياتهم الهادئة؟ من هم هؤلاء؟ انهم في رأي كليست «الرعاع الذين حررتهم معاهدة السلام مع بولندا - في ذلك الحين - من خوفهم». لكن هذا الجواب لا يبدو واضحاً أو مقنعاً، إذ علينا ألاّ ننسى هنا أن أحداث الرواية تدور في القرن الخامس عشر حين كانت ألمانيا تعيش ثورات اجتماعية ودينية لا تهدأ. وكان فكر مارتن لوثر يشق طريقه الإصلاحية الثائرة. ومن هنا، لا بد دائماً من التعاطي مع هذه الرواية – وربما كذلك مع روايات كليست ومعظم نصوصه الأخرى - انطلاقاً من الإطارات الاجتماعية والسياسية التي كتبت من وحيها ومن خلاله، وذلك بالتحديد انطلاقاً من واقع يقول لنا إن الزمن الذي كتب فيه كليست أعماله انما كان زمناً اشتدت فيه السجالات حول القيم وحول المفاهيم الأخلاقية، ودائماً انطلاقاً من الإنسان وعلاقته بالمجتمع، اي انطلاقاً من الواقع المحسوس، لا كما كانت الحال قبل ذلك انطلاقاً من قيم مجردة ونصوص جاهزة بشكل مسبق، يرى المدافعون عنها وعن تأبيدها أنها لا تتحمل نقاشاً واجتهاداً. ومن الواضح هنا أن أوروبا وما تتمتع به اليوم من عقلانية، إنما ولدت من ذلك الإصرار الذي عاشه المفكرون دفاعاً عن مبدأ هو في يقيننا صنع اوروبا وحضارة العالم العقلاني: ما لقيصر لقيصر وما للّه للّه. ومن هنا يمكن القول ببساطة امام رواية مثل «ميخائيل كوهلهاس»، إن التنوير في بعده الإنساني الحقيقي ولد ها هنا، ولد منذ اللحظة التي ادرك فيها بطل الرواية ان كل شيء نسبي، بما في ذلك الأخلاق والقيم. ومن هذا نرى أن هنريش فون كليست (1777 - 1811) كان واحداً من مفكري التنوير المبكِّرين، هو الذي وضع معظم أعماله، القصصية والمسرحية، في خدمة فكرة العدالة والثورة على الظلم. وكليست كتب خلال حياته القصيرة عدداً لا بأس به من مسرحيات لا يزال معظمها حياً ويمثَّل حتى اليوم، منها: «أمير هامبورغ» و «الجرة المكسورة»، إضافة الى قصص مثل «مركيزة» أو «كاترين»، وهي كلها اعمال يمكن اليوم التمعن فيها بشكل افضل، وذلك تحديداً على ضوء القيم والأخلاق التي يمكن استشرافها بسهولة في «ميخائيل كوهلهاس». [email protected]