إذا كان جون دوس باسوس يعتبر واحداً من كبار رواد استخدام الأحداث والشخصيات التاريخية الحقيقية في سياق رواياتهم، كما فعل خصوصاً في «يو اس إي»، روايته الثلاثية الكبرى، فإن أفضل عمل ينتهج هذا الأسلوب، ظهر خلال الثلث الأخير من القرن العشرين يظل رواية «راغتايم» للكاتب الأميركي دوكتوروف. وهي الرواية التي حولها المخرج ميلوش فورمان، في عز حقبته الأميركية الى فيلم مميز، كما حولت قبل سنوات الى استعراض مسرحي قدم في برودواي وغيرها. لكن الواقع يقول لنا ان لا الفيلم ولا الرواية تمكنا من استعارة الرواية في شكل جيد، على رغم تميزهما. ذلك أن النص الذي كتبه دوكتوروف في أقل من 300 صفحة أتى زاخراً بالأحداث والشخصيات في شكل مكثف وغريب من نوعه. وحسبنا أن نذكر هنا، على سبيل البداية، أن ثمة ظهوراً - مطولاً في أحيان كثيرة - لأكثر من 30 شخصية تاريخية حقيقية في صلب أحداث «راغتايم»، تتداخل، حتى في العلاقات العاطفية مع الشخصيات المتخيلة التي أبدعها دوكتوروف، ووزعها على ثلاث عائلات جعل لمشاكلها والصراعات في ما بينها، وكل ضروب الغدر والخيانة، دوراً أساسياً في الرواية. فمن الساحر هو ديني، الى فرويد وكارل يانغ، رائدي التحليل النفسي، الى ملكة جمال أميركا، أول القرن ايفلين نسبيت، الى هنري فورد والفوضوية الشهيرة إيما غولدمان مروراً بالثائر المكسيكي اميليانو زاباتا وغيرهم، جعل دوكتوروف لهؤلاء أدواراً فاعلة. بل إن إيفلين نسبيت، ملكة الجمال الشهيرة، تظهر هنا كشخصية رئيسة، تتنقل من حدث الى آخر ومن مشهد الى مشهد تال له. ولعل الطريف في الأمر هو أن الكاتب الذي أدخل هذه الشخصيات في روايته، جعل الشخصيات الأخرى - المتخيلة - من دون أسماء في شكل عام، حيث نلاحظ مثلاً، أن الأب في العائلة الأولى يسمى «الأب» (فاذر) والأم (ماذر)، والخال (شقيق ماذر الأصغر). ولدى العائلة الثانية حملت الشخصيتان الأساسيتان اسمي مامه وتاته... ولئن كانت الشخصية الرئيسة في العائلة الثالثة حملت اسم كولهاوس واكر، فإن القارئ النبيه لن يفوته كون هذه الشخصية مستعارة من رواية الشاعر الألماني كليست «كولهاوس»... بل إن ثمة من الدارسين والنقاد، من يرى أن كل هذه الرواية «مقتبسة» الى حد ما، من رواية كليست، لكن هذا موضوع آخر. في «راغتايم» تختلط إذاً، الأحداث التاريخية الحقيقية، بما يجري للعائلات الثلاث التي تتلاحق حكاياتها في فصول الرواية، مع أوقات يتم فيها الربط كلياً بين شخصية آتية من الحدث الحقيقي، وأحداث تنتمي الى العالم الروائي. أما أحداث الرواية في شكل عام، فتمتد - في نيويورك معظم الأحيان - من السنوات الأولى للقرن العشرين، وحتى دخول الولاياتالمتحدة الحرب العالمية الأولى عام 1917. ولئن كانت الأحداث الأولى تدور في منزل عائلة من الطبقة العليا يقع في بلدة نيوروشيل في نيويورك، فإن الأحداث سرعان ما تنتقل الى «إيليس آيلند» - في بحر نيويورك، حيث يكون الوصول الأول للمهاجرين بحراً الى الولاياتالمتحدة وفرزهم. وانطلاقاً من هنا نجدنا، بالتالي، في خضم التاريخ الأميركي خلال الأعوام الأولى من القرن الفائت... منظوراً إليه كما لو في مجلة، حيث يرى القارئ نفسه يعبر من الأحداث السياسية الى الاقتصادية فالفنية فالجرائم والدراما العائلية وما الى ذلك. إنه - اي القارئ - في قلب الراهن، بفضل ذلك التوليف الذي أبدعه الكاتب... وهو توليف، ما إن نجدنا في بيت «فاذر» و «ماذر»، حتى ينقلنا الى مهاجري «ايليس آيلند»، فإلى المصانع، فإلى الاجتماعات السياسية التي تعقدها إيما غولدمان، وتطالعنا الصحف: «سحل مئة زنجي»، «احتراق عمال مناجم»، «إصابة مئة طفل بجروح». وإثر هذا نرانا قافزين فجأة لنعايش مشكلة الخال، الذي يغرم بإيفلين نسبيت، بعد ان كان زوجها هاري كندال قد قتل عشيقها السابق المهندس ستانفورد وايت... هذا بينما غادر «فاذر» المنزل العائلي ملتحقاً بحملة المستكشف روبرت بيري الى القطب. من هنا نتتقل الى منزل عائلة المهاجرين الواصلين حديثاً والمؤلفة من مامه وتاته وطفلتهما. وهم يعيشون في منطقة الفقراء في «لوير ايست سايد»، في فقر مدقع. وهذا الفقر يدفع مامه الى تسليم نفسها، في مقابل بعض الرزق الى رب عملها. وإذ يعرف تاته بما فعلت مامه، يأخذ ابنته ويغادر البيت. وفي ذلك الحين يحدث لملكة الجمال ايفلين التي تصل صدفة الى «لوير يايست سايد»، فتشاهد الطفلة وتغرم بها، ثم تبدأ بزيارتها أكثر وأكثر كي تعتني بها وتعزي تاته على مصابها العائلي، فيما لا يكف الخال (من العائلة الغنية) عن مطاردة ايفلين. ويحدث ذات مرة أن تزور هذه الأخيرة مع تاته والطفلة، اجتماعاً اشتراكياً تخطب فيه إيما غولدمان في جمع من الناس، فيسر إيفلين بأن تسمع إيما وهي تثني عليها - أي على ايفلين - لاستخدامها الجنس للهيمنة في مجتمع رأسمالي يهيمن عليه الذكور... في خضم هذا كله، تشتعل الثورة في المكسيك، ويقوم الرئيس الأميركي ويلسون، الذي سيعرف لاحقاً بوصفه «رجل السلام»، بإرسال قوات عسكرية لقمع الثورة التي يقودها بانشو فيلا، بالتزامن مع انفتاح أبواب المستقبل مع بناء خطوط السكة الحديد التي ستمر، حتى، تحت شوارع نيويورك وبوسطن. أما هوديني، الساحر الأشهر، فإنه سيزيد من عروضه والعابه، واصلاً حتى الى بيت عائلة «ماذر» و «فاذر»، فيما سيشكو سيغموند فرويد، خلال سفرة يقوم بها الى أميركا، ندرة وجود المراحيض العامة، فيما يمارس المصرفي الشهير مورغان هوايته في جمع القطع الأثرية ويحلم ببناء هرم يكون قبراً له. من الناحية التاريخية، كل هذا صحيح، وهو مستقى من أخبار الصحف وصور المجلات التي تعود الى تلك المرحلة. وكذلك في وسعنا أن نخمن إمكان أن تكون الأحداث الأكثر خصوصية، حقيقية بدورها، أو كان يمكن حدوثها على الأقل. أما الفكرة الأجمل، فهي وجود تلك الشخصيات الحقيقية المأخوذة من الأحداث التاريخية الواقعية، في مجرى حياة الشخصيات المتخيلة. وهنا يمكننا، في عودة الى شخصية الأسود كولهاوس والكر، الذي يتميز بعزفه الرائع على البيانو، ألحان «الراغتايم»، يمكننا أن نقول كم انه يشبه الواقع أكثر من أي شخصية أخرى، لا سيما في غضبه إذ ينتفض فجأة حين تقوم مجموعة من «الصبيان الزعران» البيض بالتحرش به، لأنه «زنجي»، فيقوم وهو وراء مقود سيارته الفورد «T» بإسالة دماء غزيرة. تمتلئ رواية «راغتايم» بهذا النوع من اللقاءات بين التاريخي والمتخيل. غير أن مهارة الكاتب، أدت دوراً كبيراً في لعبة تداول الأدوار بين النوعين... بحيث إن ما هو متخيل سرعان ما يبدو جزءاً من التاريخ الحقيقي، طالما أن في إمكانه - بالنسبة الى القارئ - أن يكون قد حدث فعلاً، وما هو تاريخي حقيقي سيبدو مقحماً على التاريخ، ما يجعل «فاذر»، على سبيل المثال، أكثر حقيقية من ايفلين نسبيت... وما إلى ذلك. وانطلاقاً من هذا كله، واضح هنا كيف أن دوكتوروف حوّل الفعل التاريخي نفسه الى تاريخ متخيل وساخر، ما جعل الرواية كلها أشبه بمدونات هزلية للتاريخ الاجتماعي الأميركي الذي يبدو لنا وكأنه مقام «فوق برميل من البارود»، بحسب وصف بعض النقاد من الذين استطرد واحدهم قائلاً، عن حق: «إن كل شيء هنا يبدو شبيهاً بالمكتبة - المتحف الفخمة في شكل استثنائي والتي أقامها المصرفي الثري مورغان، والتي حاصرها كولهاوس والكر الباحث عن العدالة بأكوام الديناميت، ساعياً الى تفجيرها... لكنها لم تنفجر: أي بكلمات أخرى، مهّد كل شيء في «راغتايم» كي نرى المجتمع الذي تتحدث عنه ينفجر في نهاية الأمر أمام أعيننا... لكنه لم ينفجر... ولد إدغار لورانس دوكتوروف عام 1931، في نيويورك لأسرة من المهاجرين اليهود الروس، وهو بدأ الاهتمام بالكتابة منذ كان في المدرسة الثانوية، لكنه لم يصدر أول أعماله سوى في عام 1960 حين نشر «مرحباً بكم في الزمن الصعب»، في وقت كان يعمل قارئاً لدى دور النشر. أما شهرته فبدأت مع رؤية كبرى له هي «كتاب دانيال» التي تحدث فيها عن الزوجين روزنبرغ اللذين حوكما بتهمة التجسس للسوفيات وأعدما. وهو تلى هذه الرواية ب «راغتايم» التي حققت له شهرة عالمية عام 1975. ومنذ ذلك الحين لم يتوقف عن كتابة النقد والرواية والقصة القصيرة، وحُوِّل بعض أعماله الى افلام سينمائية وأصدر خلال العامين الأخيرين ثلاث مجموعات قصصية آخرها «هومر ولانغلي» التي تصدر هذا العام. [email protected]