تتكشف بوتيرة سريعة، اليد الروسية في تحديد مسار الانتخابات ليس في الولاياتالمتحدة فقط، ولكن في الدول الأوروبية التي أجرت انتخابات تشريعية خلال الأشهر الماضية ومن بينها ألمانيا، إذ أظهر تقرير عن الأخبار الكاذبة خلال الفترة السابقة للانتخابات الألمانية أصدره مركز الأبحاث «شتيفتنغ نيو فيرانتفورتنغ» في برلين أن الناخبين الذين صوتوا لمصلحة حزب البديل من أجل ألمانيا الشعبوي أقل ثقة بوسائل الإعلام التقليدية مقارنة بألمانيين خصوصاً من حاملي الفكر السياسي الليبرالي»، مشيراً الى أن «مواقع التواصل الاجتماعي كانت المصدر الأهم للمعلومات الخاصة بالانتخابات بالنسبة الى حوالى 6 في المئة من إجمالي الألمان، لكن بالنسبة الى 16 في المئة من الذين صوتوا للحزب الشعبوي». في المقابل، يتضح أن «الناخبين الذين ينتمون إلى تيار اليمين المتطرف أقل استهلاكاً للأخبار التي يتم الحصول عليها من المصادر التقليدية مثل التلفزيون والانترنت والصحف التقليدية مقارنة بغيرهم». هذا النمط الاستهلاكي وفقاً لما أشارت اليه وكالة «بلومبيرغ» أدى الى حصول المصوتين على قدر أكبر من الأخبار الكاذبة، ربما لأنهم تجاهلوا مصادر الأخبار الحقيقية مفضلين عليها تلك الأخبار الكاذبة». ولفتت على سبيل المثل إلى أن هؤلاء الناخبين كانوا أكثر ميلاً الى تصديق أن الحكومة الألمانية تدفع المال للاجئين للحصول على رخص قيادة، وأن أسقفاً ينتمي إلى مدرسة لوثر قال في خطاب له إن «كل الألمان نازيون» وإن «اللاجئين والمهاجرين كثيراً ما يذهبون إلى دولهم الأم في إجازات». وتتحدد انتخابات العصر الحديث تبعاً لفريقين: الأول فريق من يثقون بوسائل الإعلام التقليدية، والثاني فريق من يعتمدون على مواقع التواصل الاجتماعي بديلاً متجاهلين أنها تقدم أخباراً كاذبة في أغلب الأحيان. يرى المحلل ليونيد بير شيدسكي أنه «في وقت يخيم انتشار مواقع التواصل الاجتماعي على طبيعة الصراع في الولاياتالمتحدة، تعد ألمانيا نموذجاً لمجتمع رُسمت فيه حدود ووضعت فيه نقاط المعركة بوضوح». روسيا وخيارات مهاجريها في ألمانيا تناولت الصحف الألمانية خلال فترة الانتخابات محاولات روسيا التدخل في مسارها، واتهمت موسكو بالسعي الى التأثير في الخيارات السياسية لحوالى 2.5 مليون مهاجر روسي قدموا من الاتحاد السوفياتي سابقاً قبل وخلال عام 1991 ليستقروا في ألمانيا، إذ يشكلون أكبر مجموعة ناخبة من أصل أجنبي. وأوضح ممثل عن هذه المجموعة في برلين ألكسندر رايسر أن «الشبكات التلفزيونية الروسية أثارت مخاوف (الروس الألمان) بوصفها توافد المهاجرين بأعداد كبيرة إلى أوروبا على أنه كارثة لهم، وهذا ما أعاد تحريك إحساسهم بالصدمة الأصلية». إلا أن التأثر بوسائل التواصل الاجتماعي في ألمانيا يختلف عنه في الولاياتالمتحدة، إذ يشير استطلاع أجرته شركة «إبسوس» في حزيران (يونيو) هذه السنة الى أن 26 في المئة فقط من الألمان تشكل لهم وسائل التواصل الاجتماعي مصدراً رئيساً للأخبار، أي نحو نصف المستوى في الولاياتالمتحدة، كذلك يتجه اكثر من نصف متابعي الأخبار مباشرة نحو المواقع الالكترونية للجهات المقدمة للأخبار المفضلة لديهم». ويقول بيرشيدسكي إن «ألمانيا أقل إصابة بفيروس مواقع التواصل الاجتماعي، ومتأخرة كثيراً في تطور وسائل الإعلام اليمينية مثل «بريتبارت» و «فوكس نيوز» بفضل القوانين المطبقة جيداً والخاصة بخطاب الكراهية». برلين ومواقع التواصل الاجتماعي تتقدم ألمانيا على الولاياتالمتحدة في تنظيم مواقع التواصل الاجتماعي، فهي على سبيل المثل تلزمها بمحو أي خطاب يحضّ على الكراهية سريعاً، وإلا يتم فرض غرامة مالية كبيرة عليها تصل الى 50 مليون يورو، وذلك لأن المؤسسة السياسية الوسطية لا تريد مواجهة مصير نظيراتها من المؤسسات الأميركية. وتحت ضغوط أميركية وأوروبية، كشفت شركة «فايسبوك» قيام جماعات ومؤسسات روسية غامضة تعرف باسم «مصنع ترويج المخلوقات الالكترونية الخيالية» (Troll) بنشر 80 ألف خبر ومعلومة سياسية في شبكات التواصل الاجتماعي خلال سنتين اطلع عليها 126 مليون أميركي. وذكر المستشار القانوني الأعلى في الشركة كولين ستريتش في جلسة استجواب في الكونغرس الأميركي حول التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية أن الرقم المذكور يمثل جزءاً بسيطاً للغاية من أخبار ومقالات من منصات روسية في «فايسبوك» أي بمعدل خبر واحد لكل 23 ألف شخص». وكانت صحيفة «واشنطن بوست» ذكرت، نقلاً عن مسؤولين كبار في «تويتر»، أنه «وجد وسط آلاف الحسابات 3 منصات تابعة لشبكة (روسيا اليوم) الإعلامية نشرت إعلانات درت خلال العام الماضي أرباحاً للشركة تصل إلى ربع مليون دولار». ووفقاً لما أكدته قناة «سي إن إن»، فإن «فايسبوك» اكتشف أن الروس اشتروا إعلانات في قرابة 500 موقع مقابل أكثر من 100 ألف دولار خلال الشهور التي سبقت التصويت في الانتخابات الرئاسية»، وأشارت إلى أن نسبة كبيرة من هذه المنصات كانت لمشتركين داخل الولاياتالمتحدة». ويبلغ عدد المشتركين الأميركيين أكثر من 300 مليون حساب من جملة بليوني حساب حول العالم. وقال اندرو وايزبورد القيادي في «الاينس فور سيكيورينغ ديمكراسي» (الاتحاد من أجل سلامة الديموقراطية) وهو مجموعة غير ربحية أسسها باحثون أوروبيون وأميركيون هذه السنة للتصدي لما يعدونه محاولات روسية لتقويض الديموقراطية في العالم». وأضاف في تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية: «ما رأيناه من جانب الكرملين خلال السنوات الأخيرة مرآة مباشرة لما يفعله النظام بالشعب الروسي بهدف إبقاء فلاديمير بوتين وأعوانه في الحكم». تتزايد الأنظمة الآلية التي تستخدم في نشر الأخبار الكاذبة على وسائل التواصل الاجتماعي وهي تعرف باسم «بوت» وهو ما يعده خبراء النيو ميديا «مؤشراً خطيراً». وكان مجلس النواب «البوندستاغ» تعرض عام 2015 لعملية قرصنة معلوماتية مكثفة اخترقت ما يوازي مليون رسالة إلكترونية، ولا سيما رسائل نواب مطلعين على ملفات حساسة. ولم تظهر الرسائل الإلكترونية المخترقة حتى الآن على الإنترنت، لكن الخبراء يشيرون بهذا الصدد إلى التسريبات المتعلقة بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي ظهرت عشية الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية في فرنسا. وقال خبير في الأمن المعلوماتي في مركز «نويه فيرانتفورونغ» الألماني للدراسات إن «الخطر الأكبر قد ينجم عن حملة إعلامية تغذيها وثائق مسروقة». كانت المستشارة أنغيلا مركل نفسها تعرضت أجهزتها الالكترونية أيضاً للقرصنة عام 2016، ما دفعها الى الانضمام الى دورة تدريبية في هذا المجال. ووفقاً للبروفسور سيمون هاغيليش «كانت عازمة حقاً على فهم التشعبات السياسية على المستوى التقني»، وطريقة عمل (روبوتات الويب) التي تنشر الأخبار الكاذبة بسرعة فائقة». المستشارة عدوة الرئيس كرست روسيا حملاتها الدعائية ضد المستشارة مركل، وعملت على نشر المعلومات الزائفة ضدها وبشكل خاص علاقتها باللاجئين والمهاجرين من الدول العربية والإسلامية، فلمن يريد أن يتعرف الى موقفها من شهر رمضان يتجه الى غوغل ويبحث باللغة الألمانية عن موقفها من هذا الموضوع، فسيعثر على عنوان لخبر نشره موقع ألماني يشير الى أن «مركل تعفي دفع الضرائب خلال رمضان» وهدفه جذب انتباه الذين لا يتفقون مع سياساتها في ما يخص اللاجئين. ولإضفاء المصداقية على هذا الخبر نسبه موقع (Politically Incorrect) الى موقع انكليزي(Morocco World News)، وايضاً الى موقع موقع تلفزيون «روسيا اليوم» باللغة العربية». ويتضح من معلومات أوردها موقع «دويتشه فيلله» الألماني أن على خلاف استطلاعات الرأي، فإن حزب البديل من أجل ألمانيا الشعبوي كان خلال الانتخابات في طليعة لائحة عدد «لايكات الإعجاب-Like» مقارنة بالحزبين الكبيرين في ألمانيا، إذ وصل عددها الى 320 أفاً يومياً، في حين بلغ عدد «لايكات» الحزب الاشتراكي الديموقراطي 138 ألفاً، والحزب الديموقراطي المسيحي 130 ألفاً». ووفقاً لخبراء النيو ميديا، فإن «هذه الأرقام لا تعني بالمطلق أن مستخدمي فايسبوك معجبون فعلاً بهذا الحزب أو ذاك، ذلك أن نظام (اللايكات) يعتمد على آلية من صنع الشركة لأبراز عدد من قضايا تلك الأحزاب المختلفة، ما يعني أن فايسبوك يساهم بشكل ما في الرفع من مستوى الانتشار مثلاً عند قيام قيام عدد من مؤيدي حزب البديل بتكثيف الضغط بالإعجاب». كان رئيس جهاز المخابرات الخارجية الألمانية، كشف أن «عدد الهجمات الالكترونية قد ارتفع بشكل ملحوظ، ولكن هذه الهجمات ليست مصممة لاختراق أو سرقة معلومات تخص وزارة الدفاع الألمانية أو لضرب المصالح التجارية، بل «لإثارة مشاعر الريبة والشك في نفوس المواطنين الألمان حول الوضع السياسي». ولم تقتصر الهجمات الروسية فقط على التكتيكات الالكترونية، ففي وقت سابق من هذه السنة، قامت وسائل الإعلام الروسية برفقة عدد من المتواطئين الموالين لروسيا بخلق حالة من الهستيريا على مواقع التواصل الاجتماعي، من خلال الترويج لقصة وهمية حول فتاة تزعم أن شاباً من المهاجرين السوريين قام باغتصابها. وقالت المحللة الأميركية آن ابلباوم الحائزة على جائزة بوليتزر» استندت روسيا في سعيها الى نشر أجندتها، إلى استثمار مبالغ كبيرة لكسب دعم الأصدقاء من بينهم رجال أعمال ومفكرون وحتى سياسيون. ولعل من أشهر الأسماء التي ضمن بوتين مساندتها له، المدير السابق لجهاز الستازي (وزارة أمن الدولة) في ألمانياالشرقية، ماثياس ورنيغ، الذي كان على صلة ببوتين خلال فترة الاستخبارات السوفياتية. ويعتبر ورنيغ، من كبار رجال الأعمال، إذ إنه يشغل منصب المدير العام لشركة «نورد ستريم جي»، وهي الشركة التي تدير خط أنابيب الغاز الذي يربط بين ألمانياوروسيا تحت بحر البلطيق. وتجدر الإشارة إلى أن المستشار الألماني السابق، غيرهارد شرودر، يتقلد منصب رئيس لجنة المساهمين في هذه الشركة. ويقول فرانسيس فوكوياما مؤلف كتاب «نهاية التاريخ»، إن بوتين «عرف مبكراً أهمية أدوات التواصل الاجتماعي مثل فايسبوك وتويتر ومواقع الأخبار الإلكترونية، فكلها تشكل نقمة ونعمة، فيمكن أن تستخدمها لتنشر أخبارك وأفكارك ومشاريعك، ويمكن أيضاً أن تنشر من خلالها الأكاذيب والإشاعات وتبث الفوضى».