ثمة سؤال خافت يتخلل المشهد السياسي، المضطرب وغير المستقر المتولد عن الانتفاضات العربية، على اختلاف ألوانها وتنويعات ركائزها الاجتماعية والثقافية. ويمكن السؤال هذا أن يسبب صداعاً، وإن بدرجات مختلفة، لكثيرين. كما يمكنه أن يجدد اختبار قدرة القوى العربية الوازنة، المستجدة منها والمقيمة على الاحتفاظ بقدم نظامها، على التحول إلى لاعب أو فاعل سياسي وسط التجاذبات التي تعيشها المنطقة. يتعلق السؤال، المتفاوت الحضور بطبيعة الحال، بموقع المسألة الفلسطينية في خريطة المشاريع والتطلعات الوطنية والإقليمية التي ترهص بها الانتفاضات العربية. وصفة الخفوت تغطي في الواقع زوايا وأمكنة نظر مختلفة وتتخذ أشكالاً متعددة ومتباينة إذ تترجح بين أن يكون السؤال صرخة تطلب مخنوقة أو همساً مشوباً بالحذر والترقب أو أيضاً أن يكون مسكوتاً عنه. غني عن القول ربما إن السؤال هذا مثقل بظلال كثيفة يعود بعضها إلى غموض مآل الانتفاضة الشعبية الباهرة في تونس ومصر تحديداً حيث تتمتع الكيانية الوطنية بجاذبية تاريخية شبه راسخة بالرغم من، وربما بفضل، التقلبات والتعرجات الكثيرة التي عرفها وكابدها البلدان قديماً وحديثاً من دون أن يتعرض النصاب الوطني المشترك إلى اهتزازات خطيرة تهدد بالتشظّي وتحلل النسيج العام والانكفاء على خصوصيات وهويات محلية فئوية أو جهوية ضيقة. ويعود البعض الآخر، في المقابل تقريباً، إلى هشاشة الاندماج الوطني في بلدان تشكلت السلطات فيها، دفعة واحدة أو تدريجاً وعلى نحو صريح أو مضمر إلى هذا الحد أو ذاك، على قاعدة رجراجة من الانقسامات والانتماءات العمودية، القبلية والفئوية والمذهبية واختلاطها بمناطقية توزعها الجغرافي، كما هي الحال في ليبيا واليمن والبحرين، وبصورة أكثر تعقيداً في سورية المرشحة للدخول في أزمة طويلة مجهولة الأفق والنتائج بسبب تلكؤ السلطة وترددها الصارخ في تحقيق الإصلاحات التي وعدت بها. البعض الثالث من الظلال الكثيفة التي تلقي بثقلها على مسار الانتفاضات العربية وعلى موقع المسألة الفلسطينية فيها بالتالي، يعود إلى لعبة القوى الكبرى وحسابات مصالحها ورهانات تدخلها، المباشر كما هي الحال في ليبيا، والموارب وغير المباشر في بلدان أخرى مثل اليمن والبحرين والأردن وسورية. وقد بات واضحاً أن القوى هذه قررت، بعد ارتباك وترقب حذر في ما يخص الانتفاضتين التونسية والمصرية، أن تتدخل، للتأثير كحدٍ أدنى وللتحكم كحدٍ أقصى، في مسار الانتفاضات واستنهاضها لقوى لا تزال غامضة البرامج والأهداف ناهيك عن احتمالات تشكل قوى جديدة وهذه كلها كانت إما محجوبة عن النظر وإما ممنوعة التكون بسبب الحجاب الثقيل الذي فرضته النظم السلطوية على مجتمعاتها. وقد ارتفعت أخيراً أصوات وحصلت تحركات تحذر من التلاعب بمكتسبات الانتفاضة في مصر وتونس. ومن المتوقع أن تتواصل هذه التحركات ما دام أصحابها يشعرون بأن الحديث الدوري عن محاكمة الرئيس التونسي والإقدام على توقيف الرئيس المصري ونجليه وبعض أركان بطانته يهدفان إلى امتصاص النقمة الناجمة عن مخاوف شرعية من تسلل رجالات النظام السابق إلى مواقع في السلطة بعد تحويل رؤوس النظامين إلى كبش فداء. وتأتي تخبطات الحراك الشعبي في غير بلد عربي ومعها توظيفات متضاربة ومتنافسة في هذا الحراك أو ذاك لتعزز فرص تجديد النظام العربي الإقليمي واستقطاباته المعهودة. قصارى القول إن لحظة الصفاء التي وسمت الاصطفافات في تونس ومصر بين «شعب» وأنظمة سلطوية لا تجد ما يعادلها في الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية الأخرى. ولا يقلل هذا من وجاهة الاحتجاجات ولا من شرعية المطالبة بالحريات وبالحقوق المدنية والسياسية في هذه البلدان. ويكاد هذا يكفي في حد ذاته للتدليل على دخول الانتفاضات في مرحلة من التعقيد ومن تداخل الحسابات الوطنية المحلية والإقليمية والدولية. قد يتحول التدخل الأطلسي في ليبيا إلى تورط. فليس واضحاً إلى الآن، في ما يتعدى مهمة حماية المدنيين من شطحات القذافي وقواته، ما يهدف إليه هذا التدخل خصوصاً مع ظهور انتقادات وتباينات بين الدول الأطلسية نفسها حول طريقة العمل وغايته. ويرجح في الظن أن التدخل الغربي سيقوى، من دون أن يتخذ شكلاً عسكرياً بالضرورة، لاستعادة القدرة على التحكم بوجهة النزاعات والمواجهات المندلعة هنا وهناك. فالقوى الغربية تعلم أن الحراك الحالي من شأنه أن يطلق ديناميكية يرتسم النزاع الإسرائيلي الفلسطيني العربي في أفق استحقاقاتها. ولا علاقة للرغبات النضالية بهذا الأمر. كما لا علاقة له بالخوف من نشوء بطالة قومية ستصيب أصحاب «القضايا الكبيرة» في حال ما أدير الظهر للمسألة برمتها. صحيح أن بعض دول «المواجهة» ومعها أدبيات بلاغية قومجية استخدمت «القضية» لتبرير منظومتها السلطوية القائمة على المحسوبية والفساد واحتكار التمثيل الوطني العريض، كبيره وصغيره، وما يعنيه كل ذلك من مصادرة للحياة السياسية وقصرها على المصفقين والأتباع والمنشدين. على أن الصحيح أيضاً، إن لم يكن الأكثر صحةً، هو أن كل النظم السلطوية العربية، لا تحتاج إلى ذريعة من نوع المسألة أو القضية الفلسطينية لكي تستمر وتدوم. وهذا التقدير مما لا يحتاج إلى برهان. فلم تكن تونس بن علي وحكمه المديد في هذا الوارد أصلاً. ولم تكن تونس بورقيبة المؤسس والنهضوي من دعاة المواجهة وشاءت المفارقة أن يقايض بورقيبة مكتسبات التنمية والتحديث، وهي أمور حقيقية، برئاسة الجمهورية مدى الحياة. وينطبق هذا وإن بطريقة مختلفة بعض الشيء على حكم حسني مبارك المديد وإبقائه على حالة الطوارئ علماً بأن مصر وقعت واحترمت، أكثر مما ينبغي ربما، معاهدة السلام مع إسرائيل، والبقية معروفة فلا حاجة للتوسع فيها. نقول هذا لنقض خرافة اصطنعها ولا يزال دعاة التخلص من المسألة الفلسطينية بأي ثمن وكيفما اتفق بدعوى أنها مصدر كوارث تحطم المجتمعات المعنية بها وتعيق بناء الدولة الوطنية والدخول إلى رحاب الحداثة. والحال أن مصادر الشرعيات العربية، إذا كان هناك معنى فعلي لصفة الشرعية هذه، تقيم في مدارات أخرى. كانت المسألة الفلسطينية، بالأحرى الإسرائيلية، محك اختبار مباشر لقدرة مجتمعات ما قبل وطنية وما قبل قومية على الانتقال إلى مصاف الفاعل السياسي. وتجربة العرب في هذا المضمار لا تستثير الحسد. لكن الاختبار الذي أفضى إلى النكبة والهزيمة والسلام المنفرد لا يزال قائماً. إنه استحقاق لصفة السياسة نفسها. والباب مفتوح لكل الاجتهادات العقلانية.