دخلت فرنسا في مرحلة حملة انتخابات الرئاسة المقررة في ربيع عام 2012، ويترافق ذلك مع استطلاعات تُظهر تصاعد اليمين المتطرف الذي يتمثل بوريثة جان ماري لوبن، نجلته مارين، التي باتت تتزعم «الجبهة الوطنية الفرنسية» وتقود حملة الجبهة استعداداً للانتخابات الرئاسية. وتُظهر الاستطلاعات أيضاً هبوطاً لا مثيل له في شعبية الرئيس نيكولا ساركوزي الذي لم يعد محبذاً لدى غالبية كبيرة من الفرنسيين، فهناك 74 في المئة من الشعب الفرنسي لا يثقون به ولا يريدونه لولاية رئاسية جديدة، علماً بأن من المؤكد أنه سيكون مرشح حزب «الاتحاد من أجل الحركة الشعبية»، الحزب الحاكم. في هذه الأثناء، فإن نجمة الحزب الاشتراكي الفرنسي المعارض بدأت تسطع لدى الرأي العام، على الرغم من الانقسامات الكثيرة وتعدد الترشيحات المتوقعة في إطار الانتخابات الأولية التي يعتزم الحزب إجراءها في تشرين الأول (أكتوبر) القادم لاختيار مرشحه للرئاسة. ومن المحتمل أن تترشح الأمينة العامة للحزب مارتين اوبري، والمدير العام لصندوق النقد الدولي دومينيك شتروس كان، الذي تشير الاستطلاعات الى تصاعد شعبيته، وأيضاً المرشحة السابقة لانتخابات الرئاسة سيغولين رويال التي نافست ساركوزي في الدورة الثانية عام 2007. وانفرد الأمين العام السابق للحزب الاشتراكي فرانسوا هولاند، وهو شريك حياة رويال السابق وأبو أولادها، بالإعلان عن ترشيحه للانتخابات الأولية للحزب، بعد فوزه في الانتخابات الإقليمية في منطقة كوريز، وهي الدائرة الانتخابية للرئيس السابق جاك شيراك، الذي تربطه بهولاند علاقة احترام ومودة. ومنذ أن أعلن عن ترشيحه، بدأت استطلاعات الرأي تُظهر تحسناً في صورة هولاند وشعبيته، خصوصاً أنه تغير من حيث الشكل والخطاب، فقد حسّن مظهره ونحّف جسمه بمساعدة رفيقته الجديدة، وهي صحافية بارعة وجميلة، وعمل على تحسين أدائه الإعلامي وخطابه السياسي، خصوصاً أن خبرته الدولية وعلاقاته القديمة في دول عدة تعطي زخماً لترشحه. التقت «الحياة» هولاند في مكتبه في مقر البرلمان الفرنسي، حيث يشغل مقعداً نيابياً، يومَ دخول قانون حظر النقاب في الأماكن العامة حيِّزَ التطبيق، حيث بدا أنه كباقي المرشحين والحكومة الحالية، يؤيد تطبيق القانون على أن يتم شرحه. وسألت «الحياة» هولاند عن إستراتيجيته لكسب الأصوات والتقدم في الانتخابات الأولية للحصول على ترشيح الحزب الاشتراكي، فقال إن الاشتراكيين الفرنسيين لا يفعلون أيَّ شيء مثل سواهم، وإنه «كان بالإمكان منذ سنوات أن نختار أحدنا ليكون مرشحاً للرئاسة عبر تصويت أعضاء الحزب، أو باعتبار الأمين العام مرشح الحزب». وأضاف أنه بدلاً من هذا «تبنَّيْنا أسلوباً وجدولاً زمنياً يرجئ اختيار مرشح الحزب حتى تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، عبر عملية اقتراع تمثِّل دورة أولية لانتخابات الرئاسة»، بما أنها مفتوحة أمام جميع الناخبين. ويتابع قائلاً: «لذا، أعددت نفسي ليس فقط للمشاركة في هذه المنافسة، وأنا أحترم صاحب هذه الفكرة رغم انها ليست فكرتي، بل أيضاً لكسب هذا الاستحقاق من خلال التأكيد على نهج جدي على صعيد الاقتراحات». ولفت هولاند الى انه من خلال تجربته كعضو منتخب في منطقة كوريز، يعرف فرنسا جيداً، و «قد تسنى لي أن أجتازها عندما كنت الأمينَ العام للحزب، في محاولة لإنعاش أملٍ تَراجَعَ اليوم في بلدنا، ويتمثل بالحلم الفرنسي الذي يتيح للجيل المقبل أن يحيا حياة أفضل من حياتنا». ومضى يقول إن الفشل الكبير لساركوزي منذ بضع سنوات أدى الى خوف المواطنين، بمن فيهم الأجداد المستاؤون من رؤية أبنائهم وأحفادهم يعيشون أوضاعاً اجتماعية أسوأ من أوضاعهم، و «هذه النظرة ينبغي أن تنقلب، من خلال إظهار أن هدف العمل العام ودور رئيس الجمهورية والغالبية المقبلة، هو إعطاء الشباب القدرة على النجاح». وقال هولاند: «هذه هي رسالتي، وقد سميتها رسالةً لأنها مصالَحة بين الأجيال ورسالة وحدة بين الفرنسيين، تعطي الاشتراكيين الذين أطمح الى تمثيلهم دورَ مَن يستعيد شعلة الجمهورية ويضيء المستقبل ويسمح بالوثوق بالتقدم». وعما إذا كان يعتبر نفسه وريثاً للرئيس الراحل فرانسوا ميتران، أجاب هولاند: «سنحتفل في 10 أيار (مايو) المقبل بالذكرى الثلاثين لانتخاب ميتران رئيساً لفرنسا، وهذه الفترة تثير لديّ مشاعر خاصة، كوني كنت موجوداً عندما أُعلن فوزُ الاشتراكيين بالرئاسة، وأنا أعلم ما قام به الرئيس ميتران للديبلوماسية الفرنسية، والمبادرات التي أقدم عليها وكان لها وزنها في العالم العربي، سواء في لبنان وسط ظروف بالغة الصعوبة، أو إزاء الشعب الفلسطيني وخطابه أمام الكنيست، حيث كان أول من دعا الى دولة فلسطينية». وأشار الى ان ميتران كان نموذجاً للاشتراكيين، ولكن في الوقت نفسه، فإن «العالم الذي نحن فيه لم يعد عالم فرانسوا ميتران، فجدار برلين انهار في أوروبا، وانبثقت قوى جديدة، مثل الصين، ولم تعد الولاياتالمتحدة القوة العظمى كما كانت قبل بضع سنوات. كذلك الأمر بالنسبة الى العالم العربي، الذي يعيش مرحلة من الخضات والتطلعات الديموقراطية التي لم تكن مرتقبة، وتُظهر إرادة في التحرر وينبغي ان يُنظر إليها بإيجابية». ورأى ان دور الرئيس الفرنسي المقبل سيقضي بالتحاور مع الجميع بعيداً عن التحيز الذي أُخذ على رئيس الجمهورية الحالي، وان يكون عاملَ تجانس، من خلال العمل على تحقيق أهداف مشتركة من أجل التوصل الى مخرج للنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، وتطبيق سياسات تطوير وتعاون مع العالم العربي، من دون السقوط مجدداً في وهدة «الاتحاد من أجل المتوسط»، الذي فشل، واستعادة روح برشلونة، والتحاور مع الجميع، وقول الحقيقة لهم دائماً. وعما إذا كان يتخوف من الإسلام ودواعي حظر النقاب، أو من تصاعد اليمين المتطرف، وما إذا كان يرى ان خمسة ملايين مسلم في فرنسا يشكلون مصدر تهديد، قال هولاند: «الملايين من المسلمين ليسوا تهديداً، لأن غالبيتهم يعيشون دينهم في انسجام تام مع قواعد الجمهورية». أضاف: «هناك كثيرون ممن يجدون أنفسهم في الإسلام من دون أن يمارسوا هذا الدين، والمسألة إذاً ليست مسألة أرقام، إنما هناك مشكلات ينبغي حلُّها، مثل الصلاة في المجالات العامة، بدلاً من أن تتم في مساجد ينبغي إنشاؤها من دون ان يقتضي الأمر المساس بقانون عام 1905 حول العلمانية». ورأى ان القطاع العام في فرنسا ينبغي ان يتيح للجميع الاستفادة من الخدمات التي يقدمها، بمعزل عن الدين واللون، ووفقاً لمبدأ الحياد. وفي المستشفيات مثلاً، لا بد من معالجة النساء من دون أن يؤدي ذلك الى نزاعات. وذكر هولاند طريقتين للتعامل مع المشكلة، «الأولى تقضي بفتح نقاش ليس هدفه تقديم حل، ولا استخدام الموضوع بهدف المواجهة، مثلما قرر نيكولا ساركوزي من خلال النقاش حول العلمانية، وتصريحات وزير الداخلية كلود غيان، التي ستكون لها نتيجة وحيدة هي صعود اليمين المتطرف». وقال: «الطريقة الثانية هي القول إن هناك بعض المشاكل يجب العمل على حلها، وهذا ما أطرحه». وبالنسبة الى تغريم النساء المنقبات، عبّر هولاند عن قناعته بأن هذا قانون الجمهورية، وينبغي تنفيذه بذكاء، والطريقة الصحيحة هي الإقناع أولاً والتحاور، وليس معاقبة النساء ومنعهن من الخروج الى الشارع، إلى جانب اعتماد الحزم إزاء بعض مجموعات يسعين الى الاستفزاز، وهي موجودة». وحول الثورات في العالم العربي، وما إذا كان يرى ان لا عودة عنها، وهل يتخوف من الإخوان المسلمين، أجاب هولاند أن ما من شيء تتعذر العودة عنه، وقد تكون هناك ارتجاجات، وأحياناً خطوات الى الوراء، وأن الثورة الفرنسية عام 1789 كانت بمثابة سلسلة من الأحداث، ولم تكن كلها نماذج للديموقراطية واحترام حقوق الإنسان. أضاف أنه لا يمكن بالتالي ان تطلب من الدول العربية التي تشهد تحولات أن تصبح فوراً بمستوى التطور الديموقراطي الذي وصلنا اليه عبر عقود. وتابع: «إن التقنيات الحديثة والاتصالات وصلت الى حد يجعل الأمور أسرع، وينبغي مواكبة هذه الدول وتأييدها، مع العلم بأن هناك احتمالاً للتراجع أحياناً». ولفت الى انه أيَّد التدخل في ليبيا، لأن القذافي كان سيدخل الى مناطق المعارضة ويرتكب مجازر، والآن ينبغي البحث عن حل ديبلوماسي، إذ إن احتمال التقسيم وارد وينبغي تجنبه من خلال مسار يمكِّن الليبيين من التعبير عن إرادتهم. وعن سورية، قال هولاند ان النظام السوري متشدد، فهو نجح في تطوير وتحرير المرأة، لكنه كان بلا شفقة إزاء المعارضين، وطريقة قمعه المتظاهرين لا يمكن ان تُقبل من الدول الغربية، خصوصاً فرنسا، التي كانت ممالئة جداً لسورية الى حين اغتيال رئيس الحكومة اللبناني السابق رفيق الحريري، في عهد الرئيس السابق جاك شيراك. وأضاف: «بعد ذلك، اعتبر ساركوزي أن في وسعه دفْع الرئيس السوري بشار الأسد نحو قدر من الانضباط في ما يخص لبنان، وان مستشاره في حينه كلود غيان (وزير الداخلية حالياً) قام بمهامّ عدة لإعادة وصل الخيوط المقطوعة، لكننا نلاحظ ان هذا النظام لا يتطور، وينبغي إبقاء الضغط مسلطاً عليه». وتابع: «كان من الطبيعي لساركوزي في بداية عهده، أن يبدأ حواراً مع الأسد، ولكن كان ينبغي ان تكون هناك نتائج متقدمة، في حين أن أي نتيجة لم تتحقق، لا على صعيد الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ولا بالنسبة الى إيران، ولم تتحول سورية الى عنصر تهدئة في لبنان، فهي لا تزال مهيمنة رغم خروجها منه». ومضى يقول: «لا يمكن ان نكون متشددين حيال تونس ومصر ثم نصمت حيال سورية، ولم أسمع من ساركوزي تصريحات تحذِّر سورية من القمع، أو أن وزير خارجيته ألان جوبيه قال ذلك». وبالنسبة الى المشاكل الاجتماعية والبطالة في الضواحي الفرنسية، رأى هولاند ان هناك تقدماً ينبغي تحقيقه، ولحسن الحظ هناك الكثير من الشباب يتمكنون من نيل الشهادات والحصول على وظائف، لكن نسبة هؤلاء ضئيلة. ولفت في المقابل الى الإحباط الذي يواجه أولئك الذين يتعلمون ولا يجدون وظيفة، أو يتعلمون ويجدون أنفسهم عرضةً للتمييز في سوق العمل، أو ضحية العنف والتهريب، وأنه إذا بات هناك شرخ قائم بين الفرنسيين الذين يخافون من بعض الأحياء الخطرة وأولئك الذين يعيشون في هذه الأحياء ولا يرون أيَّ تقدم وقد خاب أملهم من وعود الجمهورية، عندها سيكون هناك خطر على العيش المشترك يتجاوز موضوع الإسلام، لأن الانسجام الاجتماعي سيكون على المحك. وعن صعوبة الاندماج في المجتمع الفرنسي، قال هولاند إن الفرنسيين قبلوا موجات الهجرة التي توالت في القرن العشرين، وهناك الكثير من الزيجات المختلطة، وإن ثلث الشباب اليوم لهم أجداد أو أقارب أجانب، ما يعني ان النموذج الجمهوري قد نجح. وذكر انه في الوقت نفسه، ونظراً الى كون فرنسا تعتمد مبدأ العلمنة، فإن الفرنسيين يستاؤون من عدم الالتزام به. وحول الانقسامات في الحزب الاشتراكي وتعدُّد مرشحيه للانتخابات الأولية، أجاب هولاند: «الاشتراكيون لم يكسبوا أي انتخابات رئاسية منذ 16 سنة، ورغبتنا الآن هي الانتصار بعد الفشل المتكرر، ونحن مدركون ان وضع فرنسا سيئ، وأن هناك خطراً كبيراً من أن يتمكن اليمين والرئيس الحالي، الذي بلغ التدهور في شعبيته مستوى تاريخياً، من أن يجدد وجوده في الحكم لمدة خمس سنوات أخرى بسبب انقساماتنا». لكنه أضاف أنه واثق من أنه لن يكون هناك سوى مرشح اشتراكي واحد سيتم اختياره عبر الانتخابات الأولية، وان كل المرشحين سيتحدون وراءه، وأن الوحدة هي القاعدة لدى الاشتراكيين، وأنه نظراً الى عدم تولِّيه أيَّ منصب في الجهاز الحزبي، فإنه وجد نفسه حرّاً في الإعلان عن ترشيحه للانتخابات الأولية. ولفت الى التعنت القائم أيضاً على صعيد الأحزاب الأخرى، من المعارضة والوسط، محذراً من ان يؤدي ذلك الى صعود اليمين المتطرف وتمكينه من الوصول الى الدورة الثانية من الانتخابات، لذا فإنه شدد على ضرورة التجمع بأوسع شكل للحؤول دون هذا الأمر.