تستمد الكاتبة كارسن ماكلرز أحداث وشخصيات روايتها «أنشودة المقهى الحزين» من الجنوب الأميركي، حيث تنتمي وينتمي أعظم كتاب الرواية والقصة الأميركية، ويبدو العنوان عتبة للدخول في النص، الذي يشكل المكان فيه قوة بوصفه أحد أهم أبطال الرواية، وأكثرهم هيمنة وتحكماً في احداثها وشخوصها. (البلدة في حد ذاتها كئيبة، إذ ليس فيها ما يرى) ثم تبدأ بسرد تفاصيل المكان للرواية، مصنع القطن، المنازل النائية، غرف العمال، اشجار الدراق، «فإن هذه البلدة معزولة وحزينة وتشبه مكاناً قصياً» هذا الوصف الحميمي وكأنها تبث القارئ معاناتها، في هذه البلدة، من دون أن يخل ذلك بكون السارد هو الشخص الثالث. وبعد هذا السير بالقارئ تقف به «عند مبني يبدو مهجوراً تماماً، صبغ بطريقة منقوصة، ومنذ وقت طويل قد تفتح نافذة بهذا المبني عند اشتداد الحرارة تدريجياً يطل منها وجه يشبه تلك الوجوه البشعة المظلمة وهذه التحديقة الفارغة، التي قد تستمر ساعة، هي من الاشياء التي يمكن مشاهدتها في البلدة التعيسة، بعد ذلك يمكنك مشاهدة شلالات فوركس، وتستمع إلى العصابة المصفدة» ومن هذا المكان المبني المصفد من حيث انتهت، تبدأ رواية «انشودة المقهي الحزين»، حيث تعيش الآنسة اميليا وحيدة بعد وفاة والدها، الذي ترك لها المتجر، لتصبح فيما يبدو اغنى من في البلدة. واستفادت من قوتها البدنية لاستصلاح الأرض والقيام بأعمال كثيرة تقوم بها بنفسها. امرأة قوية ذكية وطيبة نافعة لأهل البلدة، من خلال إدارة متجرها وتطوير خبرتها في الأعشاب والمحاليل الطبية التي استخدمتها للتخفيف من معاناة المرضى في هذا المكان المعزول، الذي يندر به وجود طبيب. وتبدأ الاحداث بمجيء الأحدب لايمن، الذي يدعي صلته بالآنسة اميليا. وبسخرية تصف الطريقة الهزلية التي جاء بها من لا مكان، وبادعاء غير مقنع، على رغم إلماحة إلى ارتباكه عند سؤاله اين كان ومن اين جاء!، ومع ذلك تسمح بدخوله منزلها. إنه مكان بائس وحقير في هذه البقعة من العالم، فمهما كنت طيباً مع الآخرين ومفيداً لهم قد تكون هدفاً لأطماعهم، فعلى رغم أهمية امرأة مثل اميليا وندرتها في البلدة، وعلى رغم تقديمها المساعدة لمن يعاني من الامراض، من خلال الأدوية التي تعدها وتجربها على نفسها لتتأكد من مدى فعاليتها. لم يكن كل ذلك، ليشفع لها عند اهل البلدة الذين كانوا ينتظرون أية فرصة للنيل منها ونهب متجرها، كما يظهر ذلك من المسارعة إلى اتهامها بقتل الأحدب عند اختفائه ثلاثة أيام، وهي قصة عادية جداً تحدث دائماً في الجنوب الأميركي المليء بالعنف والإجرام. ومن الواضح أن اميليا كانت على معرفة بسلوكيات وبنية أهل البلدة، وأنهم ينتظرون أية فرصة للاستيلاء على ممتلكاتها، وربما يكون هذا أحد الأسباب الذي جعل ما ذكره الأحدب لايمن عن صلة قرابته بها يبدو مقنعاً لها. لتفجأ الجميع بعكس ما اشيع وبالتغييرات، التي حدثت بعد ذلك في متجر الآنسة اميليا وافتتاح المقهى. «كان المقهى القلب النابض للبلدة، ثمة سبب اعمق جعل المقهى ثميناً بالنسبة للبلدة، وهذا السبب له علاقة بكبرياء معين لم يكن معلوماً في تلك الارجاء،، ولفهم هذا الكبرياء لا بد من تذكر رخص الحياة الانسانية، لكنه الكبرياء الجديد الذي جلبه المقهى إلى هذه البلدة». كل هذا التكرار للبلدة والمقهى في صفحة واحدة 72، هذا التكرار والإلحاح على علاقة المقهى بالكبرياء، كانت تقصد به الكاتبة شيئاً آخر غير تأثيره في سلوك أهل البلدة وعاداتهم، بحيث إنه على رغم بؤسهم وضيق معيشتهم كانوا يجدون ما ينفقونه في المقهى، المكان الذي يظهر به أبطال الرواية واهل البلدة وكأنهم على خشبة مسرح، ويبدو انه فعلاً ليس مجرد مقهى، إذ أحدث تغييراً في إنسانيتهم، لكن الى حد ما، في قصد إلى تأثير المكان وبطولته. صراع بين ثلاثة الثيمة الأخرى التي تأتي بعد المكان، هي الصراع بين الثلاثة، أو هو علاقة الحب بين الآنسة اميليا وابن خالتها الأحدب، وحب الزوج السابق، لها الذي يعود فجأة للانتقام. في علاقة ثلاثية غريبة وفي اجواء غامضة، فلم يسمح لنا بمعرفة المزيد عن هذه العلاقات، وكل ما يرد ذكره هو أقاويل على السنة أهل البلدة، فالسارد المتحكم والمسيطر على السرد عند الحديث عن العلاقة التي بين الأحدب والآنسة يتجنب أن يظهرها، ويكتفي فقط بسرد أقاويل النساء، مثل العجوز ماكفيل، التي تغطي أنفها الثآليل، وعلى رغم ان السارد الشحيح اكتفى بالأقاويل بمثل هذه العبارة «ان الحب تجربة مشتركة، لكنها لا تكون متشابهة... فهناك المحب والمحبوب». فلولا هذا التدخل في سياق السرد بهذه العبارات عن الحب ما كان لنا ان نصدق ما نقلته العجوز ماكفيل عن أن هناك علاقة حب بين إميليا الحولاء والأحدب. وتظهر هنا فلسفة كالرز لارسن عن الحب، وأن السعادة في الحب لا يهم من تحب المهم ان تشعر بالحب، وبوعي كان اختيار كارسن شخصية الأحدب لكي يكون محبوباً ولم تستطع إميليا حب مارفن «الوسيم الطيب» قبل أن يحوله الحب مرة أخرى إلى شرير، الذي هو الآخر أحبها بصدق، وكأن «الحب هنا لعنة وشقاء او حظ سيئ» والذي كان دائماً من طرف واحد في هذه العلاقة الثلاثية. فإميليا تفضل الاحدب الذي يفتتن بطليقها الوسيم الذي لم يدم زواجه منها اكثر من عشرة ايام لتطرده بعد ذلك، على رغم محاولاته استرضاءها واستمالة قلبها بكتابة كل املاكه لها. ومن جهة اخرى علاقتها بابن الخالة لايمن، فهي تبدو مستلبة وعاجزة امام تصرفاته الأنانية والوقحة والناكرة لكل رعاية وحب اميليا له. لتنتهي هذه العلاقة نهاية مأسوية بنهب المتجر وإحراقه وتدمير المكان، قبل ان يرحلا او يختفيا. وبسخرية حامضة من الحياة تختم روايتها كارسن ماكلرز، مثلما بدأت. نحن إزاء ما يشبه عدسة سينمائية للمكان،. وكأن كل ما حدث اشياء تافهة موجودة فيه، أو ظهرت من خلاله في شكل عابر وغير مهم. هذه الرواية على رغم بساطتها وتناولها قصة عادية فإنها تظهر أن الامور العادية اعمق مما تبدو عليه، وأن العلاقات هي اكثر تعقيداً واعمق مما نظن. وحاولت بقراءتي ايضاً ان اعتمد اسلوب الكاتبة لكي لا افسد القراءة على من لم يقرأها. وهي رواية ساحرة وثرية، وتغري بقراءات اخرى، كما أن لغة الروائية جميلة، وايضاً اللغة التي استخدمها المترجم علي المجنوني للترجمة كانت ثرية متفردة وتستحق الإعجاب.