سمعنا خلال الثورات التي تعصف بالمنطقة العربية عبارة تكررت ويبدو أنها ستتكرر على لسان كل ديكتاتور وجد نفسه فجأة، ومن دون سابق إنذار، في مواجهة الملايين من أبناء شعبه الذين ملأوا الشوارع والساحات مطالبين بحقهم في الحرية والكرامة. هذه العبارة تتلخص بطلب موجه من الديكتاتور إلى الشعب لإعطائه «فرصة للإصلاح ولتحقيق مطالبهم». هناك خمسة أسباب رئيسة توضح لماذا لا يستحق الديكتاتور هذه الفرصة. السبب الأول: الشرعية. والديكتاتور بالأصل ليس حاكماً شرعياً للبلاد، فهو إما استولى على الحكم بالقوة أو ورثه، والدليل على ذلك استمراره فيه لسنوات طويلة بالقهر والإرهاب وتعطيل القوانين المدنية والعمل بقانون الطوارئ وترتيب انتخابات تضمن نجاحه بها بنسبة 99 في المئة الشهيرة. أما فرص الإصلاح فتعطى عادة لحاكم وحكومة انتخبا بحرية وتحت سطح القانون ولديهما برنامج عمل واضح مع جدول زمني، وبالتالي لا يحق للديكتاتور الذي لا يملك أياً من ذلك أن يطلب أي شيء. الثاني: أضاع الفرصة. إذا نظر الديكتاتور إلى عدد السنوات الطويلة التي أمضاها هو ونظامه في الحكم، لوجد أنه كان بإمكانه خلالها، وبالصلاحيات التي معه، أن يصلح العالم كله وليس بلده فقط. ولكنه بدلاً من ذلك كان منشغلاً مع حاشيته بسلب ثروات البلد وامتصاص دماء الشعب من جهة، وقمع من يعارضه ويتحدى ممارساته، وبالتالي فهو أضاع الفرصة حين كانت معه ولم يعد يستحقها. الثالث: مشكلة الثقة. معروف عن الديكتاتور عبر التاريخ أنه جبان وغدار وكاذب. جبان لأنه طالما استغل سيطرته على قوات الأمن والجيش لقهر الشعب الأعزل وارتكاب المجازر ضده. وهو غدار لأنه طالما وعد بالإصلاح والتصالح مع الشعب، إلا أنه عاد وغدر بالمطالبين بالإصلاح وزج بهم في السجون أو قام بتصفيتهم أو دفعهم لمغادرة البلاد. وهو كاذب لأن وعوده بالإصلاح تبقى بمعظمها حبراً على ورق، على رغم أنه يقوم بين الحين والآخر ببعض الأعمال الرمزية الخالية من النوعية ليستعملها في تلميع صورته في حين أن الإصلاحات الحقيقية التي يؤديها هي لجيوبه وجيوب حاشيته. ولهذا سيقع الشعب في خطأ تاريخي قاتل إذا صدق الديكتاتور في هذه الظروف ووافق على إعطائه فرصة لا يهدف من ورائها سوى إلى التقاط أنفاسه وإعادة تنظيم صفوفه الأمنية لينقض على الثورة ويصفي أحلام الناس بالحرية والكرامة، وربما كانت الفرصة الوحيدة التي يجب أن يستغلها هي الهروب خارج البلاد قبل وقوعه في يدهم. الرابع: عدم الكفاءة. فبحكم الطبيعة العسكرية والأمنية للديكتاتور أو لنظامه، أو لهما معاً، فهو غير قادر على معالجة أوجاع الشعب وهمومه. فهو لا يرى في التظاهرات سوى تحد له ولنظامه وينظر إليها كتهديد للثروات التي يجلس عليها، وبالتالي فالحلول الوحيدة التي يجيدها في هذه الحالة - والتي لا يعرف غيرها أصلاً - هي استدعاء الأمن لإسكات الناس بإطلاق الرصاص عليهم. فنظرية الديكتاتور الأمنية تتلخص بأن «البلد الآمن هو البلد الذي لا يسمع فيه صوت الناس، أو البلد الذي لا صوت للناس فيه!». والفرصة التي يطلبها عادة وهو في مواجهة خطر الثورة هي، فرصة للانقضاض على الشعب، وليس بهدف الإصلاح الذي لا يعرف ماهيته، ولهذا يجب ألا يحصل عليها ولا بأي ثمن. الخامس عدم القدرة: أخيراً، فالديكتاتور غير قادر على الإصلاح وإن أراد، فهو وإن كان يمثل رأس النظام الفاسد، إلا أنه ليس كل النظام. فالأنظمة الديكتاتورية تكون عادة فاسدة من رأس الهرم إلى قاعدته، كما أنها تنقل عدوى الفساد إلى شريحة من الشعب انتفعت منها بوسائل غير قانونية فتشاركت معها وباعتها ولاءها في مقابل تلك المنفعة. ولكن إذا افترضنا أن معجزة حصلت وصحا ضمير الديكتاتور في صباح أحد الأيام وقرر إجراء إصلاحات حقيقية (وليست مسرحية)، والعمل تحت مظلة القانون المدني (وليس قانون الطوارئ)، فهل هو في هذه الحال مستعد للبدء بنفسه وبحاشيته بإعادة ما نهبوه إلى خزينة الوطن؟ وتقديم من ارتكب جرائم قتل (بدعوى الضرورات الأمنية) إلى المحاكم المختصة؟ والتخلي عن الحكم الأبدي (الذي يفترض أن لا يتمتع به سوى الخالق. إذا كان الديكتاتور مستعداً لذلك، فمن قال له أن حاشيته، خصوصاً الأمنية منها، ستقف مكتوفة الأيدي أمام زعيمها الذي قرر فجأة أن يرضي ضميره ويلمّع صورته على حساب جيوبها ومصالحها؟ فهي عملياً لن تتردد بإزاحته عن طريقها، خصوصاً أنها تملك المال والسلاح معاً ومدربة على التآمر والقتل، وقد سجل التاريخ الكثير من الحوادث التي تنتهي بسقوط رأس الديكتاتور على أيدي حاشيته لأسباب مختلفة ومن أشهرها حادثة يوليوس قيصر الروماني. وبالتالي فإن منح أية فرصة للديكتاتور ونظامه، ليس فقط مضيعة للوقت، ولكن أيضاً قد يؤدي إلى نتائج كارثية على الشعب والوطن أسوأ بكثير من الثمن الذي كان الشعب سيدفعه لو استمر بثورته حتى النهاية، ومن لا يتعلم من التاريخ، يصبح عبرة من عبره.