ظلت المؤسسات الدولية والإقليمية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبنك التنمية الأميركي وصندوق النقد الدولي، إلى وقت قريب توصي الدول بعامة والنامية بخاصة بتبني إجراءات وسياسات ما يُعرف ب «توافق واشنطن» لإصلاح أوضاعها الاقتصادية والمالية وتصحيحها وتحقيق معدلات نمو قابلة للاستمرار في الأجل البعيد ورفع مستويات معيشة السكان. لكن الركود العالمي الذي أحدثته الأزمة المالية العالمية دمر الركائز الفكرية ل «توافق واشنطن» ليبدأ البحث عن البدائل. تعبير «توافق واشنطن» هو من بنات أفكار الاقتصادي الأميركي جون ويليامسون، وأطلقه عام 1990 عند وصفه لحزمة السياسات والإجراءات التي وضعها صندوق النقد ودعمتها وزارة المالية الأميركية بهدف إصلاح الأوضاع الاقتصادية والمالية في دول أميركا اللاتينية في أعقاب أزمة المديونية الخارجية العالمية التي فجرتها المكسيك عام 1982 بإعلانها عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المالية. ويتكون «توافق واشنطن» من إجراءات وسياسات هادفة إلى إصلاح المالية العامة بترشيد الإنفاق وتعبئة الإيرادات وإصلاح النظام الضريبي، وتحرير التجارة الخارجية، وتدفقات رأس المال بشقيه القريب الأجل الموجه إلى أسواق الأوراق المالية والبعيد الأجل المستهدف الاستثمار المباشر، وتخصيص المشاريع العامة في ظل أسعار صرف تنافسية. وفوق هذا كله لا بد من ضمان حقوق الملكية والمحافظة عليها. وهذه الإجراءات و السياسات التي سميت ب «توافق واشنطن» تندرج تحت ثلاثة مبادئ أساسية هي استقرار الاقتصاد الكلي، وتنافس الأسواق، وانفتاح التجارة الخارجية والاستثمار الأجنبي المباشر. عندما كانت المؤسسات الدولية ومعها الإقليمية تشترط تبني سياسات وإجراءات «توافق واشنطن» من قبل البلدان التي تتقدم بطلب قرض لتمويل عجز الحساب الجاري وإصلاحه، كان يُفترض أن هذه المبادئ الهادفة إلى إصلاح الأوضاع الاقتصادية وتصحيحها ستزيد الكفاءة وتحسًن توزيع الدخل والثروة وتحقق نمواً قابلاً للاستمرار يرفع مستويات معيشة السكان. وكانت النتائج في الدول التي تبنت برامج الإصلاح هذه دون التوقعات لا بل مخيبة للآمال، فالبطالة ظلت مرتفعة، واستمر الفقر، واتسع انعدام المساواة، وازداد انتشار الجريمة والعنف. وتخلى صندوق النقد الذي كان الأب الروحي ل «توافق واشنطن» عنه، وبدأ يبحث عن منهج جديد لسياسة الاقتصاد الكلي، ومنهج جديد للدمج الاجتماعي، ومنهج جديد للعمل المتعدد الأطراف. ومن ملامح المنهج الجديد في الاقتصاد الكلي ضرورة وضع سياسة نقدية تتجاوز استقرار الأسعار وتحتضن الاستقرار المالي باستخدام أدوات السلامة الاحترازية، مثل نسب رأس المال ونسب السيولة ونسب القرض إلى القيمة، وسياسة مالية تتجاوز دورها في المثبتات التلقائية، الذي سمح لعجز الموازنة بالارتفاع والانخفاض مع تقلبات الدورة الاقتصادية، واستخدامه استنسابياً لدعم الطلب الكلي عند الحاجة، كما فعلت معظم دول العالم لاحتواء آثار الأزمة المالية العالمية. كذلك يحتاج القطاع المالي إلى معالجة تنظيمية كبيرة كي نتجنب الوقوع في أزمات شبيهة بالأزمة الأخيرة التي نشأت في ظل ثقافة الربح السريع والمخاطرة الرعناء. أما ملامح المنهج الجديد في الدمج الاجتماعي فلا بد أن تأخذ في الحسبان الهوة الواسعة والمتزايدة بين الأغنياء والفقراء. ففي السابق، كان ثمة تهوين من انعدام المساواة على أساس أنه ضروري ولا بد منه في سبيل الثراء. لكن هذا المفهوم لا بد أن يتغير. فالجمع بين البطالة واتساع انعدام المساواة لفترة طويلة يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية وسياسية تفضي إلى انعدام استقرار الاقتصاد كلي. لذلك فإن النمو القابل للاستمرار في الأجل البعيد يرتبط بتوزيع ثمار التنمية على نحو أكثر عدالة. ومن سمات المنهج الجديد للعمل المتعدد الأطراف التعاون الجاد في مواجهة التحديات الاقتصادية التي تواجه العالم ومنها إعادة التوازن إلى النمو العالمي. ففي هذا المجال، يجب على البلدان التي حققت عجزاً في حسابها الجاري في ميزان المدفوعات، مثل الولاياتالمتحدة وبريطانيا، أن تعتمد أكثر على الصادرات، وعلى البلدان التي سجلت فوائض في حساباتها الجارية، مثل الصين وألمانيا واليابان، أن تعتمد أكثر على الطلب المحلي. فهل تلتزم الدول الكبرى بالتعاون الدولي حتى في غياب الأزمات لتجنيب العالم ويلات تكرارها في المستقبل؟ يُؤمل ذلك. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية