يخرج من بيته بعد أن يصلي الفجر مباشرة. يتجاوز الزقاق المفضي إلى الشارع والذي يصل إليه عقب شروق الشمس. هناك يجد عبدالفتاح الفوال أحياناً يجهّز له طلبه المعتاد - منذ أكثر من خمسين سنة - بمجرد أن يراه مقترباً من الدكان ويعطيه له بمجرد وصوله. فيرده إليه وينهره قائلاً: - لا، اعمل الساندوتشات قدامي علشان آكلها سخنة في الدكان. تخرج الكلمات من فمه بطيئة وقوية كحركته ومشيته. يبتسم الفوال، فهو يعرف أنه لن يصل إلى دكانه قبل ثلاث ساعات على الأقل فيعيد إعداد الساندوتشات له باسماً راضياً. يأخذها منه ثم يبدأ في عبور ذلك الشارع القصير المفضي إلى دكانه. يرفع قدمه عن الأرض ويقدمها في الهواء مسافة قصيرة وهو يجول ببصره للأمام وإلى حيث سيضع قدميه. ثم يضرب بها الأرض في بطء وقوة، ليهتز جسده مع وقعها. بعدها يعدل وجهه تجاه الشارع ثم يكرر الحركة مع القدم الأخرى، حتى يصل إلى دكانه في مدة تتجاوز أربع ساعات. المسافة نفسها كان يقطعها من قبل في عشر دقائق. تركته زوجته التي لم تكن قوية مثله لتصارع المرض وتقاوم الموت. انهارت مقاومتها بسرعة واستسلمت للموت في هدوء. أما أولاده، فأحدهم هاجر إلى أميركا قبل عشرين سنة وانقطعت أخباره، فيما لا يفكر أي من الآخرين في زيارته سوى مرتين في السنة. مرة في عيد الفطر والأخرى في عيد الأضحى. تشتد أشعة الشمس التي تلفح وجهه فيتذكر الساندوتشات التي يحملها. يفترش أقرب مصطبة ويبدأ بقضمها. يتجدد الأمل لديه كل صباح بأن يصل إلى دكانه ويأكل فيه الساندوتشات التي يشتريها من عبدالفتاح الفوال. كل يوم يبدأ رحلته وهو موقن بأنه سيصل إلى هدفه ليأكل هناك طعامه. يقوم ليكمل طريقه الذي لم يسأم من عبوره طوال أكثر من سبعين سنةً. هو الآن يعيش بلا ذكريات. لكنه يتذكر كلما تسلم إيجار الشقة التى تعلو شقته والتي يعيش على ريعها أن آخر ما يسقط من ذاكرة إنسان ما ومدركاته هو المال. يقول إذا وجدت الإنسان غير متذكرٍ مالَه غافلاً عنه فاعلم أن مدركاته كافة أصابها العطب والدمار. يصل إلى دكانه فيفتح بابه الخشبي العتيق ويخرج كرسياً يجلس عليه أمام الدكان حتى تحصره مثانته فيقوم ويستتر خلف باب الدكان الخشبي ثم يتبول على هذا التل الرملي الذي جلبه للدكان منذ خمس سنوات لقضاء الحاجة كالقطط متى أحس برغبة في ذلك. يجلس في الدكان الذي يحوي سلالاً وأقفاصاً قديمة لم يبع منها شيئاً منذ سنوات طوال. تأتيه امرأة لتسأله عن هذا القفص أو ذاك، فيجيبها بصوته الجهوري المتكاسل. تحاول السيدة أن تفاصله في الثمن. فيرتفع صوته ساباً لاعناً حتى تفر من أمامه. يجلس على كرسيه الخشب حتى يسمع آذان العصر فيبدأ رحلة العودة إلى بيته. لم يعد يحفل به أحد. تجد الأطفال يلعبون ويدورون من حوله وكأنهم لا يرونه وهو ينظر نحوهم في ذعر. يخشى أن يصدمه أحدهم فيطرحه أرضاً. يكمل طريقه ليصل إلى منزله بعد صلاة العشاء. يأكل من أي شيء موجود في المنزل. يجلس على سريره تؤنسه وحدته ويحادثه صمته. ينظر إلى الدنيا بعين مستريبة. فهو لا يرى فيها إلا وحشاً يريد أن يفتك به. يأتيه أحد أولاده في جنح الليل. آه إن هذا الولد لم أره منذ عامين. تتهلل أساريره. يرحب به ويجلس معه. يحدثه قليلاً، ثم يطلب منه التوقيع على ورقة. يضع ابنه القلم في يده، ثم يقبض عليها بقوة ويضعها على الورقة ليجبره على التوقيع عليها. ينظر إلى الورقة يحاول أن يجمع ذهنه الحروف التى تلتقطها عيناه. عقد بيع. إنه يريد أن أبيع آخر ما أملك. هنا يشعر بأنه اقترب جداً من الموت، وأنه لم يعد يرغب في مقاومته.