الأرجح أن آدم كسحي بطل رواية «ذاكرة شرير» للروائي السوداني منصور الصويم، ما كان ليرضى، لو قيض له ان يجيب عن وصفه ب«الشرير» في عنوان هذه الرواية الفائزة بجائزة الطيب صالح للإبداع الروائي، والصادرة عن مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، فهو لن يرضى بوصفه ب«الشرير»، ليس لأن أقواله وأفعاله، في العمل الذي بدا مثل سيرة ذاتية له، لا ترقى إلى ذلك، بل لأن هذا الوصف أخفّ وقعاً وبلاغة، من مرادفه في قاموس المجتمع الذي نشأ فيه، مجتمع «الشماشة» أو «أولاد الشمس» كما يسميه بعضهم، المجتمع المكون من مشردين ونازحين و «عطالين» وشحاذين وأصحاب مهن هامشية، ومحاربين قدامى أصيبوا بعاهات دائمة، ولم تنفعهم تعويضات ما بعد الخدمة، فانتشروا في السوق بعكاكيزهم أو عجلاتهم المدولبة، منهم من يبيع السجائر، أو المشغولات اليدوية الرخيصة. جاء هؤلاء الى «العاصمة» الخرطوم، أو «كرش الفيل» كما يسميها بعضهم، لأسباب مختلفة، ومن أوضحها الهرب، من الجدب والحرب، في بعض أقاليم السودان. توزعوا في شوارع السوق الكبيرة، في مجاريها وأقبيتها وأزقتها، أرصفتها وأماكن أخرى لا تصلها حملات الشرطة التي تطاردهم حفاظاً علي «مظهر المدينة». معظمهم يعيش من بقايا الطعام في المطاعم، أو من التسول، أو السرقة وغير ذلك مما تلهمهم به حيلهم ومكائدهم. ابتكروا عالمهم الخاص، ب«البنقو» و«السلسيون» وسائر أصناف المخدرات التي تنسيهم أهوال النهار والليل، وتخفف من ويلات مطاردات الشرطة ووقع ضربات هراواتها على رؤوسهم، ثم الجوع، ثم خيانات الأصدقاء والصديقات، والصراعات التي يفتعلها بعضهم طمعاً في سلطة ونفوذ، نعم سلطة! فحتى في تلك الأرصفة والمجاري ثمة مواجهات قاتلة يغذيها طمع التسلط والسيادة، مستوحاة دائماً من الأفلام الهندية التي يصل إعجابهم بها، خصوصاً عندما يسري الخدر في أبدانهم المنهكة، إلى درجة إعادة تمثيل أدوارها كاملة، ولكن بواقعيّة، اذ يُقتل الخائن فعلاً ويعيش البطل، ف «البطل لا يموت»، بمنطق هذه الأفلام! منذ عشرين عاماً باتت أجهزة الإعلام الرسمية تتعاطى مع أمرهم كظاهرة اجتماعية آخذة في التمدد. لكنّ ما كان مثيراً في أمرهم، هو لغتهم التي تسمى «الراندوك»، اللغة التي تسترهم وتحمي عالمهم، من الشرطي القاسي ومن أصحاب المحال التجارية، ومن الناس العاديين. لغة يقومون بتحويرها وتجديدها يومياً ربما لأن من السهل للآخرين اختراقها، بدافع الفضول أو بدافع الرغبة في عيش حياة أخرى، وهذا ما يصدق في حالة أبناء أو بنات الطبقة الميسورة، فأكثرهم يستلف من بلاغة «أولاد الشمس» هذه، شيئاً ما! فطلاب الجامعات أقاموا اللقاءات والندوات لفضها وكشف ما تنطوي عليه من دلالات اجتماعية وثقافية، وثمة لغويّ فرنسي يدعى ستيفانو مانفردي قارنها بلغة «الفيرا» في فرنسا! اذاً لو كان على آدم كسحي أن يختار عنواناً لهذه الرواية لأنتقى لنفسه، صفة أقلّ احتشاماً من هذه التي أرادها كاتب الرواية، صفة من لغته المصهورة بنار الفقر والجوع، والهلع من الشرطيين! لكنّ الكاتب لا يريد بالطبع لعنوان روايته ان يكون مبهماً أو يندس في «الراندوك»؛ بل يريده واضحاً وجذاباً وفي متناول الجميع. على ان من الواضح ان الصويم شُغل كثيراً بهذا البعد الغرائبي في عالم «الشماشة» بمغامرات أبطاله، ومصائرهم الدراماتيكية، وهو عالم بكر وخصب لم يسبقه إليه أحد. أراد لروايته ان تكون رحلة كشفية في محطاته، سواء تحت الأرض، حيث المخابئ التي يصعب الوصول إليها، أو فوقها، حيث معالم العيشة الضنكة تُلتقط من الأرصفة، بالتسول، والسرقة وسواهما. لم يكن الصويم في حاجة الى الكثير من التزويقات والحيل التقنية؛ فثمة ما يُحكى فعلاً. ومن لحظة متقدمة في حياة بطله آدم كسحي تبدأ الرواية القائمة على ضمير المتكلم، مع تنويعٍ خفيف على ضمير المخاطب، وعلى وقع اللحظة ذاتها تنتهي. لكننا نعرف الكثير، بين اللحظتين المشدودتين بخيط سرديّ حافل بالأحداث المُستعادة : وُلد البطل ادم كسيحاً، بقدمين كسيحتين أو ميتتين، لذا أطلق عليه رفاقه في الشارع كنية آدم كسحي، أمه مريم كراتيه أنجبته في الشارع، وفي الشارع تجولت به بعض الوقت، وهو على ظهرها، تتسول وتسرق مثلها مثل غيرها من «الشماشيات» ثم ماتت وتركته في الشارع أيضاً، دون ان يعرف ِمن صلب مَن أنجبته. تركته لثلة من صديقاتها تناوبن على تربيته وتدريبه على فنون التسول والسرقة وسائر ما تعلمنه من حيل العيش. وكان ذكياً، تعلم بسرعة، وأسعفته ذاكرته القوية على حفظ كل شيء! ذاكرته ذاتها التي تعيده وتعيدنا معه، في مفتتح الرواية، الى أعوام طويلة إلى الوراء، حيث حادثة مصرع أمه، الحادثة التي سيعرف بعدها، على صغر سنه، ان الحياة في الشارع هي اتقاء الموت! وأي موت، موت من الجوع وأمراضه المزمنة، موت من مطاردة الشرطيين، وموت تُلهم به المخدرات والأفلام الهندية، مثل موت أمه التي شاهدت مع رفاقها من «الشماشة» فيلماً هندياً راقصاً ومليئاً بالورود والأغاني والدماء، وبعد خروجهم من الفيلم وجدوا أمام بوابة السينما صندوقاً خشبياً محطماً فانتزعوا منه شرائح خشبية طويلة تصلح كعصيّ. وقرروا إعادة إنتاج بعض مشاهد الفيلم، وقسموا الأدوار بينهم فكانت أم آدم البطلة والبطلة تقاتل الى جوار البطل ولا تموت مثل البطل. «إلاّ أن أمي العظيمة مريم كراتيه ماتت حين ضربها رئيس الخيانة بعصاه، فانغرز مسمار بطول البوصة في رأسها واخترق جمجمتها ولامس مخها أو روحها فسرقت منها الحياة ووقفت قرب البطل.. بطلة ميتة». يتنقل الطفل الذي لن ينسى هذا المشهد الدموي بقدميه الكسيحتين مع «الشماش» ويكسب ثقتهم وحبهم بتفانينه في التسول وأساليبه الأكثر قدرة على تحصيل المال وتذويب القلوب عطفاً وشفقة. فما أختزنه من دموع في فراق أمه، كان يكفيه بكاءً لقرن مقبل، كما يقول! يتعرف كسحي، بعد حين من الكد في الشارع، إلى الشيخ محمدو في حي في اقاصي المدينة. الشيخ يسكن بيتاً طينياً ويعيش من بيع الأحلام والأوهام لبعضهن. يتعلم كسحي عليه، وللمرة الأولى أصول مهنته لاحقاً وهي حفظ القرآن الكريم وصنع «البخرات» و «التمائم» و «المحاية». وبعد رحيل الحاج محمدو يعود إلى الشارع مرة أخرى، لوقت قصير، ثم يلتقي بشيخ آخر، أكثر مكراً ودجلاً، يعلمه مهارات سحرية جديدة، على وقع السوط هذه المرة. حفظ آدم أجزاء كاملة من القرآن كي يتلوها على أسماع المتشككين والمترددين، ودفعه الخوف إلى حفظ الأوراد المعقدة والعصية، كما دفعه إلى الاستجابة للشيخ وهو يحوله إلى «فحل» للنساء الحالمات بالأمومة، بعدما أمسى الشيخ منهكاً من القيام بهذا الدور! ومرّة خاف آدم من امرأة بيضاء فاتنة جيء بها إليه ليواقعها ويعيد إليها شهوتها إلى الحياة، فانفجرت في وجهه غاضبة فحسبها مسحورة، وراح يهرب مرعوباً من بيت الشيخ إلى الأبد. إلا ان المرأة ذاتها ستظهر له مرة أخرى وكأنها لعنة مؤجلة ! يعرف آدم كسحي لاحقاً عذابات لا تحصى، تنتهي به إلى السجن، وهناك يلتقي خليل المغامر الجريء، في قسم أقل وحشة بالسجن، مخصص للتجار أصحاب «الشيكات الطايرة»، أي التي بلا رصيد. ومعه يختبر معارفه في الدجل، فهو يبيع للسجناء المنعمين مواعيد وهمية للخروج من السجن، ويوهمهم بزيادة أرصدتهم في البنوك.. يعمل خليل بما ملك من خيال تجاريّ في استثمار خبرات كسحي في الدجل والشعوذة. وبعد خروجهما من السجن، تبلغ شهرتهما القاصي والداني ويربحان الكثير من المال إلى ان تصل إليهما تلك المرأة البيضاء، لكنها تقع في عين خليل الذي يجلس أمام الباب وينظم دخول المغشوشين إلى «الشيخ آدم»، تعجبه فينتحي بها جانباً ولا يدخلها، يسقيها مخدراً قوياً ليروضها لكنها تموت وتودي بهما، هو وآدم، إلى السجن! لا بد من الإشارة هنا إلى ان من أكثر المظاهر الأسلوبية بياناً وتأثيراً في رواية «ذاكرة الشرير» مظهر «التعليق» هذا، أو الإرجاء. فثمة حكايات فرعية عديدة، يتم تعليقها لتظهر تفاصيلها لاحقاً، ربما بعد أن تسقط من ذاكرة القارئ، لتؤكد بظهورها مرة أخرى، الحس الفني اليقظ للكاتب، وتعمّق الصدق الفني للعمل. ولعل التعليق الأطول والأكثر خبثاً تمثل في نهاية الرواية، فهي عبارة عن تكملة ذكية لبدايتها. ومع أننا في البداية نتوهم ان آدم كسحي دخل قصراً فخيماً إلا إننا نعرف في النهاية ان ذلك كان سجناً، لكنه سجن للأثرياء! رواية «ذاكرة شرير» تفضح الصورة الزائفة لمدينة الخرطوم، تعرّي ما تخفي العمارات التي طاولت السحاب من أحوال فقيرة وبائسة، ومن عشرات الأطفال المحرومين من أبسط الحقوق المعيشية، يجبرهم الجوع على السرقة والاحتيال، وتتجاهلهم دور الرعاية الاجتماعية وتعنّفهم الشرطة فتمتلئ نفوسهم بالغبن والحقد وتكبر معهم وتكثر أوكار الجريمة.